الخميس، 25 مارس 2021

اليقظة/أليخاندرا بيثارنيك





سيدي

القفص غدا عصفورا

وطار،

وقلبي بات مضطربا

يعوي على الموت،

ويبتسم من وراء الرياح

لهذياناتي.


كيف أتصرف مع خوفي.

كيف أتصرف مع خوفي.


 النور لم يعد يرقص في ابتسامتي

ولا المحطات تحرق الحمام في أفكاري،

يداي غدتا عاريتين

وراحتا حيث الموت

يعلم الموتى الحياة.


سيدي

الهواء يعذبني لوجودي

ووراء الهواء حيوانات خرافية

تشرب من دمي.


الكارثة

ساعة الفراغ بلا فراغ

لحظة قفل الشفاه

والإنصات للمدانين يصرخون

وتأمل كل اسم من أسمائي

مشنوقا في العدم.


سيدي

عمري عشرون عاما

عيناي عمرهما عشرون عاما كذلك

ومع ذلك لا تقولان شيئا.


سيدي

لقد استهلكت حياتي في لحظة

البراءة الأخيرة انفجرت

و"الآن" ليس إلا "أبدا" أو "إطلاقا"

او ببساطة "كان".


كيف لا أنتحر أمام مرآة

وأختفي لأبعث في البحر

حيث ينتظرني مركب كبير

بأضواء مشتعلة؟


كيف لا أشد عروقي

وأصنع منها درجا

لأهرب لجانب الليل الآخر؟


البداية تمخضت النهاية

كل شيء سيبقى على حاله

الابتسامات المستهلكة

الاهتمام بمقابل

الأسئلة حجرا حجرا

وإيماءات تقلد الحب

كل شيء سيبقى على حاله.


لكن ذراعي تعانقان العالم بإصرار

لأن أحدا لم يخبرهما

أن الوقت فات.


سيدي

ارم توابيت دمي.


أتذكر طفولتي

حين كنت عجوزة.

الزهور كانت تموت في يدي

لأن رقصة السعادة الوحشية

كانت تقوض قلبها.


أتذكر صباحات الشمس السوداء

حين كنت طفلة

أقصد بالأمس

أقصد منذ قرون.


سيدي

القفص غدا عصفورا

والتهم آمالي.

سيدي

القفص غدا عصفورا

وكيف أتصرف مع الخوف.

‐----------

الاثنين، 22 فبراير 2021

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ/ بيرتا جارثيا فائت




بيرتا جارثيا فائت (1988) شاعرة إسبانية ولدت في مدينة باليثيا الساحلية، صدر لها "مزامير فوسفورية" (2017) وفازت بالجائزة الوطنية للشعر الشاب "ميجيل إرنانديث عام 2018، و"سن الاستحقاق" (2015) وأربعة دواوين أخرى: "حفنة شرور" (2008)، "نايت كلوب من أجل تلميذات متفوقات" (2009)، "مقدمة لكل شيء" (2011) و"ثمرة فراولة وجرح" (2011)، وجميعها صدرت فيما بعد في كتاب واحد بعنوان "قلب تقليدي" (2011).

     في مقال له بجريدة "الباييس" الإسبانية، كتب الناقد لويس باجيه كيليث "أن بيرتا جارثيا فائت، رغم صغر سنها، احتلت مكانة قوية في الشعر الإسباني الحديث. في ديوانها الأخير "مزامير فوسفورية" تقدم مونولوج داخلي جارف وصارم لطفلة تشك، تتناقض، تمحي ما تكتب، تستسلم لفيض أفكارها، تحلل عبارة القرن الـ 21 وتفتح شطرات بوليفونية هذيانية. وبعيدًا عن الشكل المثير لشيء بلا هوية، فـ "مزامير" تسمح لنا بمشاهدة نمو ذات شاعرة تتصارع مع الطقوس الاجتماعية الموروثة وإدراك الدور الثوري لها كامرأة وشاعرة". ويضيف: "أن شعرية هذا الديوان تكثف البعد التناصي مع أشياء تجسد الأنماط الأبدية والأيقونية الما بعد حداثية، وفي الوقت الذي يتحول فيه الشعر إلى سلسلة من منشورات الفيسبوك أو شعارات تنمية ذاتية مطبوعة على الفناجين، نحتاج إلى من يذكرنا بأن الفاعل الحقيقي في القصيدة شعراء لديهم روح المغامرة، لذلك نحتاج إلى بيرتا جارثيا فائت".

هنا ترجمة لقصيدة تمثل شعرية بيرتا جارثيا فائت.

-----------

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

 

أن يكون لكِ خطيب

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك زوج

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك ثلاثة أطفال

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لديك قط

وأن تطعميه جيلاتي بطعم اليوسفي البارد

كما في اليابان

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني عزباء

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني وحيدة؛ مستقلة؛ مكتفية بذاتك؛

أن تكوني "ما تودين"؛ وأن تكوني "أنتِ على حقيقتك"؛

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تحصلي على كارنيه قبطان سفينة

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك أبوان

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك خمسة إخوة وتقسمون مهام القصر

بحسب الاحتياجات والقدرات

أن يكون لكِ أصدقاء

أن تكون اشتراكية

أن يكون لك ِ ماضٍ

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لديكِ دراجة عادية للرحلات الطويلة

ودراجة أخرى للتمشية في المسافات القصيرة

أن تختاري

أن تجهضي

أن تكوني طفلة

أن يكون عمركِ خمسين

أن تلعبي بالصلصال في ذهنك

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لديك مشبكان للشعر

أن يكون لديك ثمانية أرجل

أن تعيشي في نهر

أن تكوني عاطفية مثل سلطعون

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك فرْج

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ جدًا جدًا

أن تموتي ذات يوم

أن تصلي من أجل الفستق

أن تمارسي الحب المثلي

أن تأكلي الكمثرى وحدها

فكرة جيدة، صح؟ لكن التنفيذ سيئ

مقاطعة الكعب العالي

انتعال حذاء فلات

فكرة جيدة والتنفيذ جيد

أن تكوني "مفعولًا به"

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني "فاعلًا" وحين يروق لك تكوني المفعول المدلل

فكرة جيدة، صح؟ لكن التنفيذ سيئ لأن الأمر قد يلتبس عليكِ

ورث فضائل، أموال

رعاة، رؤساء

جمال، جراح

أباريق صينية

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني مرحة مبهجة خفيفة سهلة بسيطة

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن يكون لك هالة

أن تصطاديها ليس في صورة إنما في لوحة زيتية

أن تمجدي الذاكرة

أن تفركي اللون بصوت

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تغني بصوت عذب

ألّا تعترضي لو أرسلوك لجمع الحطب

أن يدلكوا ظهرك

ألّا تخجلي من التغوط

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تعرفي أشياءً

فكرة جيدة، صح؟ لكن التنفيذ سيئ

ألّا تكوني متدينة

أن تصنعي الباستا شبه نيئة

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تنجبي ابنًا آخر و"لن أنجب مرة أخرى"

أن تعيدي الاتصال (أو تردي مباشرة) على مكالمات الموبايل

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تتحرري

فكرة جيدة، لكن كيف؟

أن تفعلي أشياءً

أشياءً هامة

أن تكسري أشياءً

وأفكارًا

أن تمثلي عرضًا

في شارع كبير

أن تهادي المارة بباقة من الخس

أن تعلني لهم حبك وأنتِ تبكين خلًا وفلفلًا

وأن تسحبي منهم "الباقة" وأنتِ تدورين  وتدوسينها بخبث

وتقولين لهم لم أعد أحبك يا ابن القحبة لأنك لا تحبني أنا

وهذه الباقة التي جمعتها لك بكل حب العالم

ضعها في مؤخرتك يا وضيع

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن ترسلي رسالة بالواتساب لكل اتصالاتك

بما فيهم السباكين وأصحاب الشقق ومدراء البنك ووكلاء ثروتك

خالاتك وأبناء خالاتك وأصدقاء صديقاتك والمضيفين الطارئين وزوجات الأب

أن تقولي: أنت وهو لماذا تتبادلان الكراهية؟

أن تقولي هذا من أجل تأسيس متحف في الأرجنتين  

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تضعي حصالات في شكل خنزير في أنتريه ببيت متخيل

وأن تطلبي من الضيوف البصق فيها

وأنتِ تفكرين في مرات أحبوا فيها البصق على وجه أحد

وحين يتجمّع أناس كثيرون ولعاب، فليدخل قس وليبصق

ثم، بلعاب الحصالة، يعمّدني   

سأغدو حلزونًا مقدسًا

بقية الحصالات ستبقى مغلقة وتبقى في الصالة

من أجل الخلود لا من أجل الرفاهية

بجانب مطارق في شكل صلبان

محفوظة لأجل من يريد فتحها

فيفك رقبتها

على إيقاع عطشه

سيكون الحقد كنزًا

والعنف بطئًا

والذنب بصمة إصبع تعيدني مقدسة ورمادية

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

عدم الكذب

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

قول الحقيقة

ألّا تكوني مستطيلًا

أن تكوني، في نهاية المطاف، قبضة من الرماد

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

التفكير قبل، أثناء أو بعد الكلام

كف الأذى المتعمد وغير المقصود

"الكلام أقل والفعل أكثر"

فكرة جيدة لك التنفيذ سيئ

أن تكوني فنانة

أن تستحقي حب المرضي العقليين

فكرة جيدة، صح؟ لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني شخصًا

لا يمكن نسيانه

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تعيشي في مركب وتجولي المحيطات

وتتوقفي في أماكن فقط من أجل تزويد الوقود

والعمل

في أي شيء والمكسب منه

والإبحار

فكرة جيدة لكن ثمة هامش لتحسينها

أن تكوني الطبيعة

أن تكوني الثقافة

أن تكوني كنيسة زرقاء ومذهبة

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني نثرًا واضحًا ودقيقًا

عن قرية تؤسطر أبطالها

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

ألّا تعاركي الألم

قبول أنك ملكه

وقبول أنه ألمك

فكرة جيدة لكن التنفيذ سيئ

أن تكوني شخصًا

فكرة جيدة، صح؟ لكن التنفيذ سيئ

الجمعة، 11 ديسمبر 2020

عندما كنا عربًا: قراءة جديدة في تاريخ العرب في إسبانيا

 

     كيف تكوّنت صورة ذهنية مليئة بالمغالطات حول الإسلام في أوروبا؟ وكيف أثّرت هذه الصورة على النظر إلى التاريخ الأندلسي واعتباره فترة سيئة في تاريخ إسبانيا؟ من هذه الأسئلة ينطلق المستعرب والمؤرخ الإسباني إميليو جونثالث فيرّين في كتابه الذي أحدث صدى كبيرًا "عندما كنا عربًا"، الصادر حديثًا عن دار الموثارا الإسبانية.

     نقطة الانطلاق الأولى هي "الذاتية"، إذ يؤكد فيرّين منذ السطور الأولى أن كل عمل بحثي هو بالأساسي عمل ذاتي وليس عملًا موضوعيًا، ينطبق ذلك على عمله هذا كما ينطبق على كل الكتب والأبحاث الأخرى. من هنا يعلن انحيازه من اللحظة الأولى للثقافة الإسلامية، الثقافة التي عرفها من خلال معايشته لها في الدول العربية خاصةً المغرب، والقاهرة التي قضى بها سنوات لإنجاز أطروحة الدكتوراة. لكن انحياز فيرّين وذاتية العمل، الذي يضم جزءًا لا بأس به من سيرته كمستعرب، لا يعني أنه يتخلى عن فرض الافتراضيات والوصول للبراهين بحسب المنهجية الأكاديمية، بل يعني أنه من هذا الانحياز سيختار نماذج للأعمال التي تناولت بالسلب التاريخ الأندلسي لينقدها من داخل ذاتها، مفككًا إياها من ناحية، ومشيدًا رواية أخرى كانت معروفة ثم صارت متجاهلة لأسباب أيديولوجية، ليضيف إليها رؤية تاريخية أكثر رحابة وأكثر التصاقًا بواقع اليوم.

     يؤسس المؤلف في الفصل الأول للمنهج الذي يتخذه لتوضيح نظريته للإجابة عن هذين السؤالين: ثمة فارق واضح بين الإسلام كدين، الإسلام كثقافة، والمجتمعات الحديثة. الإسلام كدين هو النص القرآني، والثقافة الإسلامية هي المنتج الثقافي المبني من جراء التحام النص بالواقع والمجتمع، أما المجتمعات الإسلامية الحديثة فهي نتاج آخر ومختلف ساهمت عوامل كثيرة في تكوينه. يذهب فيرّين إلى أن المجتمعات الإسلامية الحديثة ليست انعكاسًا لمجتمع القرون الوسطى الإسلامي، ولا هي، بالطبع، أنموذج واقعي للنص القرآني، وبالتالي لا يمكن الحكم على مسلمي اليوم باعتبارهم "التمثيل" الواقعي للدين الإسلامي، لأن كل بلد إسلامي له خصائصه، ولأن كل فرد مسلم له شروط حياته المختلفة، ولأن التأويلات النصية تختلف من زمن لزمن ومن جماعة لجماعة. بهذه النقاط، يسعى فيرّين لإزالة اللافتة التي يرفعها الغرب عند النظر للمسلمين، سواء داخل المجتمع المسلم أو داخل أوروبا ذاتها، لينتقد عبر هذه الرؤية وسائل الإعلام التي لا تكف عن الربط بين الإسلام والإرهاب، والخلط بين قضايا الهجرة والدين الإسلامي، وتكوين رؤية سلبية حول حقبة الأندلس من خلال الممارسات اليومية لمهاجرين مسلمين أو قضايا سياسية عربية، ما يجعل المواطن ينظر إلى الطفل السوري اللاجئ لا باعتباره طفلًا لاجئًا، بل تمثيلًا لكل هذا الصراع الثقافي والسياسي القديم، إنه طفل مسلم في نهاية المطاف.

     لا يتجاهل فيرّين أداءات وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة اتجاه كل ما هو مسلم، بل يلتفت إلى قدرتها على خلق رأي عام وثقافة عامة تردد عباراتها الخاطئة، ليرصد الفارق الكبير بين كلمة "جهاد" في النص القرآني ككلمة تحث على الدفاع عن النفس كما تعني جهاد النفس ضد شرورها، وبين كلمة "جهاد" الإعلامية التي تعني الاعتداء الإرهابي ضد مواطنين "غير مسلمين" أو غربيين بالتحديد أو في أرض غربية. سوء الفهم، أو الجهل المتعمد، أحد مرتكزات الكتاب الذي يسعى لوضع النقاط فوق الحروف، كمحاولة جديرة بالنظر إليها لفهم الإسلام كدين وكثقافة. لكن فيرّين، وهو إسلامولوجي كذلك، لا يسلط الضوء هنا على "الدين الإسلامي" إلا في حدود الاستدلال بما فيه لإثبات نظرية، إنما يعمل على "الثقافة الإسلامية" التي كان لها الأثر الأكبر في التنوير الأوروبي. من هنا يرى أن كتاب "حي بن يقظان" لـ بن طفيل أحد أهم الكتب الأندلسية التي أدت إلى الحداثة الأوروبية أو التنوير الأوروبي. الإشارة لكتاب ابن طفيل يأتي في سياق الرد على مدعيّ أن فترة الأندلس أدت لتأخر إسبانيا عن اللحاق بركب التنوير الأوروبي، وهي أطروحة يتبناها العديد من المؤرخين الإسبان، لذلك يعتبرون فترة الأندلس مجرد "غزو واسترداد" ويلخصونها في حروب ومعارك انتهت بالطرد. ما يعتبره فيرّين تجاهل لجزء أصيل ورئيسي في التاريخ الإسباني، ويتبنى أن الأندلس منتج ثقافي عربي وإسباني معًا، وهي ثقافة أنتجها هذا المزيج الحضاري، وينفي أن تكون إسبانيا "مجتمعًا سعيدًا ومتحضرًا غزته قبائل صحراوية"، ويشير للتبادل الثقافي السابق على الدخول الإسلامي، كما يؤكد على الفصل ما بين الأندلس كتاريخ أصيل في التاريخ الإسباني وبين ما يعيشه العالم العربي اليوم من أزمات.


     في كل ذلك، يذهب إميليو جونثالث فيرّين إلى طرح أسئلة حقيقية حول التاريخ: "التاريخ ليس ما حدث، إنما ما نرويه"، بهذه الرؤية التفكيكية يعيد النظر في التاريخ الأندلسي، ويضرب مثلًا: لو أننا كتبنا اليوم عن روسيا الحرب الباردة، ماذا سنكتب؟ وإلى أي مدى ستتسق هذه الكتابة مع المدوّن عن هذه الفترة خلال حدوثها؟ وإذا كنا نتكلم عن روسيا كتاريخ حديث، فما بالنا بتاريخ الأندلس القرنوسطي. هكذا ينطلق فيرّين من رؤية تأريخية تسعى لقراءة تاريخية تهدف الهدم، رؤية تتبنى "ما بعد الحقيقة" لتبرهن على عنوان الكتاب ذاته "عندما كنا عربًا"، عندما كان الإسبان عربًا، وهي تذكِرة وتمجيد لفترة الأندلس، لكن ليس بوصفها منتجًا عربيًا خالصًا. الأطروحة تؤكد على أن العرب لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا الإسبان يعرفون أنهم كانوا عربًا.

     بهذه الرؤية التي يدور حولها الكتاب، بهذه الأطروحة، لا ينتصر فيرّين للثقافة الإسلامية فحسب، بل في الحقيقة ينتصر لتاريخ إسبانيا نفسه، الذي لا يمكن قراءته من دون ثمانية قرون هي مجمل الحضور الإسلامي بمساهماته العلمية والفكرية والمعمارية. وهو إذ يتناول ذلك لا يتناول القرآن كثورة أخلاقية، وقد كان كذلك بحسب المؤلف، إنما أثر القرآن في تكوين ثقافة كوّنت مجتمعات، والمجتمعات أفرزت حضارة، والحضارة أنتجت تاريخًا. هذا التاريخ لا يعتقد فيرّين أنه فعل تراكمي، إنما يقوم كل جيل بقراءة الأحداث من وجهة نظره، تحت تأثير السياق والأيديولوجيا.


    ولعل أحد أبرز نقاط الكتاب، بالإضافة للنقاط السابقة، هو أن الإسلام لم يكن إمبراطورية مثل الإمبراطورية الرومانية مثلًا، وأنه يرفض فكرة "الاسترداد" لأنه يرى أنه لم يحدث غزو من الأساس. يشير فيرّين إلى الأمة/الثقافة، وليس إلى الأمة/الدولة، الأرض كانت شبه الجزيرة الآيبيرية، ثم صارت الأندلس، قبل قيام دولة إسبانية كاثوليكية. ينتقد فيرّين "أننا نكذب على أنفسنا وعلى حاضرنا لو اقترحنا غير ذلك". وفي ذلك، رغم انتقاده للبحث الأكاديمي، إلا أن تركيز النقد موجه لوسائل الإعلام، إذ انتقل الخطاب من "أصولية الإسلام" لـ "أسلمة الأصولية"، لتخرج وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة، من حيادية تصنيف بعض المسلمين بالأصولية، للتأكيد على أن الأصولية ذاتها منتج إسلامي.

     ينصح فيرّين بقراءة كتاب خوان بيرنيت عن الأثر الإسلامي في النهضة الأوروبية، إذ يشير إلى أن فترة القرون الوسطى لم تكن معتمة كما يتصور البعض، المسألة أنها مكتوبة باللغة العربية التي لا يجيدونها، وأن فكرة "النهضة"= إعادة الميلاد، تشير إلى الحضارة اليونانية والرومانية متجاهلة الحقبة الإسلامية لهذا السبب.

     لا شك أن كتاب "عندما كنا عربًا" هو أحد الكتب الطليعية في هذا المجال، وإن كان له سابقون في الدفاع عن الحضارة الإسلامية بالأندلس، إلا أن رؤيته تظل جديدة وجدالية، جديد أيضًا حداثته، ربطه ما بين التوجهات الإعلامية وتحليل خطابها والتوجه الأكاديمي ورؤية رجل الشارع، نحن أمام كتاب "واقعي"، يلمس الأرض ويناقش أسئلة المجتمع، يقلّب صفحات التاريخ في الشارع، ويفهم طبيعة مجتمعه وطبيعة القارئ المتلقي لأفكاره. كتاب قادر على ربط الهجرة العربية إلى أوروبا بظاهرة الإرهاب واللجوء السياسي بتكوين صورة سلبية عن إسلام اليوم وعلاقته بالأندلس كتاريخ، وهي رؤية موسوعية ومتسعة نادرًا ما يتوافر عليها كتاب يتناول تاريخ الأندلس.   

  

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

من أسوار السلطة لأسوار الكومباوند: ثقافة العمران في القاهرة

 

     بالعودة إلى ابن إياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" يمكن فهم لماذا اختار العرب مدينة القاهرة لتكون عاصمتهم الإسلامية بديلًا عن الإسكندرية التي كانت عاصمة الدولة الجريكورومانية: مدينة تقع بين جبل المقطم ونهر النيل، جبل كان مكسوًا بالنبات والأشجار، فتبرع  بزرعه لجبل بيت المقدس استجابة لإرادة الله، فقرر الله أن يعوضه فزرع فيه أو حوله أولياء الله الصالحين، حيث تحول لمدفن لهم؛ والنيل الذي تدور الحكايات حول قدسيته، أحد نهري الجنة، شريان الحياة لبلدان النهر.

     من الفسطاط، الاسم الأول للمدينة والمستقر الأول لعمرو بن العاص، وحتى القاهرة الفاطمية، تمددت القاهرة نحو الشرق، صوب الجبل، وحين اتسعت الدولة شيدت أسوارًا وأبوابًا لتفصل أهل السلطة عن الشعب، لتحمي السلطان من يد الرعية ومطالبهم وتمردهم. شيّد صلاح الدين القلعة لتكون مقرًا للحكم، في دلالة أولى لهذا الانفصال، ووعد محمد علي أن يعيش في قصر بين الناس هاجرًا القلعة حين اختاره الناس، لكنه لم يحتمل أكثر من عام وعاد إلى القلعة. الخديوي اسماعيل اختار قصر عابدين، بوسط القاهرة، ليكون مقرًا للسلطة، ربما أدرك أن انفصال محمد علي عن الناس كان سببًا في جنونه وزوال سلطانه. وعمل اسماعيل على صنع "القاهرة الخديوية" التي يتميز معمارها بالشوارع الواسعة والبناية العالية والأسقف المرتفعة والزخارف الأوروبية، من رسومات وتماثيل. على عكس المعمار الإسلامي السابق: الشوارع الضيقة، البيوت المنخفضة لكنها الواسعة من الداخل، بصحن ربما يضم نافورة أو يفسح لها مكانًا، والحلى والزخارف مثل الأرابيسك والمقرنصات. عمارة اسماعيل كانت إعلانًا عن عصر جديد، انفتاحًا على أوروبا وتسليمًا بزمنها، بعصر النهضة والحداثة التي بدأت من الفكر وبلغت المعمار. لكنها في القاهرة كانت حداثة مزيفة، أخذت القشرة والسطح  وتركت العمق والجوهر. لكننا أمام سلطة أنهت زمن الأسوار، وبداية من اسماعيل غدت هذه الجدران من الماضي، فالملك أو السلطان أو الخديوي بات يعيش مع الشعب، حتى لو كان خلف حراسه.

     هذا التحول المعماري: الميادين والشوارع الواسعة، رافقه انفتاح أيضًا في المجتمع، بعثات للطلبة إلى فرنسا، مدارس للبنات. المطبعة التي عملت مع محمد علي، ظلت تعمل على نطاق أوسع، وربما كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، كنتاج لهذا الزمن، أحد أهم الكتب التي طرحت سؤال الهوية ووقف على الفروقات الثقافية بين مصر العربية الإسلامية وأوروبا العلمانية المتمثلة في فرنسا (كتاب الساق على الساق من الكتب الهامة في هذا السياق). لا يمكن فصل التحول المعماري عن الحرية، عن الزخم المجتمعي والسعي للأفضل، عن وجود نخبة ثقافية تتفاعل مع العالم وتروم الاستفادة من خبراته. تبقى القاهرة الخديوية كترميز لهذا الفكر، كما بقى معمار القاهرة الإسلامية كملخص لفكرة السلطان عن السلطة.

 


توسع عمراني، معمار فقير

     من الطبيعي أن تتوسع المدن ما دام ذلك في الإمكان، خاصة مع الزيادة السكانية. من هنا ظهرت قاهرة خلف المقطم، فصارت المدافن، التي كانت على حافة المدينة، في وسطها. تخيل: المقابر وسط المدينة، الموتى محاطون بالأحياء في كل مكان. اضطر عبد الناصر لقطع جبل المقطم، لقسمه نصفين حتى لتبدو قلعة صلاح الدين فوق جبل منفصل، ليتوسع في القاهرة شرقًا، في مد لخيط الأسر الإسلامية السابقة على محمد علي. أي معمار اختارت دولة عبد الناصر؟ بناية بلا صلة بالمعمار الإسلامي ولا بالمعمار الأوروبي، بناية خالية من أي زخرفة أو جمال، مجرد صب لأسمنت فوق حجارة، بلا ميدان كبير يمكن أن يكون متنفسًا للمدينة. لا يمكن أن نَصِفه بالمعمار القبيح، لكنه المعمار المتقشف، الوظيفي، معمار لا يراعي البعد النظري. بطريقة ما، يمكن أن نسميه معمارًا اشتراكيًا، يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا النوع من المعمار هو الخطوة الأولى اتجاه الإسكان الاجتماعي، إسكان الطبقة الوسطى الجديدة، حيث البيوت الضيقة ذات السقف المنخفض، بالتوازي مع ظهور الإسكان العسكري للضباط وصف الضباط. لقد عكس النسق المعماري فلسفة ثورة يوليو، السعي لطبقة واحدة لا يعلوها إلا طبقة الضباط، وخلق مجتمع متشابه يسود فيه التعليم المجاني ليغطي الجميع ويحاول إتاحة الفرص بالتساوي، لكنه لا يترك مساحة للحرية ولا يهتم بالبعد البصري.


من العشوائية للكومباوند

     السياسة المعمارية ستزداد سوءًا مع الوقت، سيتوسع الإسكان الاجتماعي كمًا لكنه سيكون علامة قبح وعدم احترام للمواطن (الفقير في هذه الحالة، طبقة موظفي الدولة). في التسعينيات ستزداد العشوائية، البنايات غير مشطبة الواجهة، حيث انتهت عند الطوب الأحمر، البنايات التي غزت الأرض الزراعية ضد إرادة الدولة، القمامة التي باتت منتشرة في كل مكان مع غياب ملفت للحاويات، توسع المدينة في غرب الجيزة (6 أكتوبر) كان طوق نجاة، لكن المعمار سيطر عليه الطابع الاجتماعي الفقير، حتى البنايات الأهلية اتخذت نفس الشكل. الأكاديمي صبري حافظ التفت لهذا التوسع العمراني وهذه العشوائية، وربطها بالأدب المكتوب في فترة التسعينيات. توصل حافظ في دراسته إلى أن الكُتّاب باتوا بلا أمل بعد انهزام القضايا الكبرى (يقصد بها القومية العربية) فراح أدبهم في اتجاه الهم الفردي والاجتماعي لا السؤال السياسي، وبالفعل جسّد بعضهم، بحسب حافظ، هذه العشوائية العمرانية.

     التوسع العمراني في شرق القاهرة (لربط القاهرة بمحافظات القناة) تحققت منذ بداية الألفية. ظهرت بالتوالي مدن مثل الرحاب ومدينتي والشروق، كضواحي من أجل طبقة الأثرياء، وتوسعت الجيزة في المقابل بهدف ربطها بمحافظتي الفيوم والواحة البحرية، فاتسع حي 6 أكتوبر. مع هذا التوسع ظهر "مجتمع الكومباوند"، لتظهر من جديد مدينة الأسوار العالية. ورغم أن هذه المدن ظهرت في نهاية عهد مبارك، إلا انها اتسعت منذ بعد ثورة يناير. لقد أدى الانفلات الأمني التالي للثورة إلى إثارة الخوف في الطبقة الوسطى العليا (التي تضاءلت وانكمشت) والطبقة العليا، فكان خيارهم هو المدينة المسوّرة. كما ساهمت الدولة في هذا الاتجاه بنسبة كبيرة، إذ باعت الأراضي بأسعار رخيصة لرجال الاعمال (في صفقات فساد ورشوة) وساهمت بتوصيل الخدمات من ميزانية كان يجب ان تخصص للفقراء ومحدودي الدخل، لتوفر لهذه الضواحي كل الخدمات. وفي الوقت الذي ادعت فيه الدولة أنها تفعل ذلك من أجل التنمية، كان الجميع يعرف أنه ليس بوسع أحد العيش في هذه الضواحي، باستثناء الأثرياء. "مجتمع الكومباوند" في خلال سنوات قليلة بدأ يفرز ثقافته، ثقافة التبرؤ من الثقافة العربية واللغة العربية، وتبني الثقافة الغربية واللغة الإنجليزية كلغة للكلام، وثقافة التعالي على الساكنين خارج ضواحيهم المعزولة. ضمت هذه الضواحي المدارس الدولية والجامعات الأجنبية، ودعمًا لهم، لهذا المجتمع الثري على هامش القاهرة الثقافية الفقيرة، دعت الدولة لإنشاء "العاصمة الإدارية" حتى توفر لهم كل الخدمات، بطريقة تبدو كهجر الزوجة الأولى من أجل الزوجة الجديدة.


     لا يحتاج سكان القاهرة الجديدة، المقيمون في الكومباوندات وخلف الأسوار، إلى الخروج من ضواحيهم، ولا يحتاج أبناؤهم إلى الاحتكاك بالساكنين خارج الأسوار. هذا النوع من التوسع العمراني أفرز معماره، بنايات على شاكلة الشاليهات والفيلل، وبنايات أنيقة من خمسة طوابق، ومساحات خضراء واسعة، وأندية رياضية. أحياء كان يستحقها سكان القاهرة جميعهم، لكنها خُصِصت فحسب للأثرياء، ومن أجل حمايتهم كان يجب رفع الأسوار والبوابات. بطريقة ما، يتشابه الأثرياء اليوم مع أهل السلطة في الدولة الإسلامية، قلاع يحيط بها حراس لحمايتهم من الشعب. الفارق الجوهري أنهم من أبناء الشعب، وليسوا من أهل السلطة، وإن كان أهل السلطة يعيشون بينهم.

     كانت القاهرة، بالطبع، تتميز من قبل بأحياء راقية، أحياء احتفظت لنفسها بمعمار مميز وحياة هادئة، مثل الزمالك والمعادي والدقي ووسط البلد، مقارنة ببقية الأحياء. لكن هذه الأحياء كانت مفتوحة على الأحياء الشعبية، كان يمكن دخولها والتجول فيها والاختلاط بأهلها والتعليم بمدارسها، سواء الحكومية أو التجريبية ثم الخاصة. هذا النوع من الاختلاط كان يخلق نوعًا من الألفة. لم يشعر سكان هذه الأحياء الراقية بالغربة في التعامل مع الطبقات الشعبية، ولا العكس. كانت المسألة محصورة في إدراك كل طبقة للفوارق الاجتماعية والثقافية بدون أن يحدث ذلك صدامًا، كانت المعاملات اليومية بها نوع من الرضا والاحتياج، تأدية خدمات مقابل أموال، أبواب رزق مفتوحة وخدمات تقدم تفتح بيوت الفقراء. حتى التعالي الملحوظ في أبناء الطبقة العليا كان يمكن السخرية منه والضحك عليه، حتى كان يتحول مع الوقت إلى مراهقة فكرية.

     كل ذلك لن يتحقق مع "مجتمع الكومباوند"، ففي الوقت الذي ظنوا فيه أنهم تحرروا من المجتمع، كانوا في الحقيقة يسجنون أنفسهم خلف أسوار لا نهائية، وحين تأتي لحظة الاضطرار للخروج والتعامل مع المجتمع الأصلي سينتبهون إلى أنهم صاروا غرباء بالفعل. لقد تعلموا لغة ليست لغتهم، وثقافة ليست ثقافتهم، وربما تكون نيويورك أقرب إليهم من القاهرة.

      لقد خلقت ثقافة الكومباوند مجتمعًا مشوهًا، بلا هوية، يعيش بهوية متبناة، بأقنعة صغيرة لا تليق على وجوههم الكبيرة، فلا تغطي إلا أعينهم، فلا يرون لكنهم مرئيون. هذا ليس تنوعًا في طبقات المجتمع ولا في ثقافته، إنما خلق مسوخ تتبرأ من أصولها، وإذا كان الآباء (وهم اليوم لا يزالون في الثلاثينات والأربعينات) يمكنهم التفاعل مع مجتمع يرفضونه لكنهم تربوا فيه ويفهمونه، فالأزمة ستكمن في أبنائهم الذين ولدوا مسلوخين من ثقافتهم، فالأسوار التي اختارها آباؤهم ليعيشوا خلفها ليست فحسب أسوار الكومباوندات، إنما أيضًا الأسوار النفسية. ففي عقيدتهم، كل من يسكن خارج الأسوار ليس من طبقتنا، ولا من مجتمعنا، إنهم الأوباش الذين يعارضون السلطة ويتذمرون منها ويسعون لهدم الدولة، إنهم الأوباش الذين يسعون لامتلاك ما لا يعملون من أجله، إنهم اللصوص الذين يهددون سلامنا داخل كومباونداتنا المسالمة، داخل مدينتنا الفاضلة.


     وسكان خارج الأسوار، فيما يفكرون؟ كيف يرون سكان خلف الأسوار؟ بالنسبة لهم، ليسوا إلا أتباع السلطة وناهبو خيرات البلد، أصحاب جوازات السفر الخاصة أو مزدوجة الجنسية، الذين يعيشون بجانب المطار ليسهل عليهم الهرب. وسواء كانت رؤيتهم حقيقية أو نصف حقيقية أو مجرد فهم خاطئ، فالأسوار خلقت هذه الأجواء العدائية، حيث ثروات البلد تروح في بناء عاصمة جديدة لفئة محدودة، فيما تحتاج القاهرة التاريخية إلى نصف هذه الميزانية لإعادة رونقها والقضاء على عشوائياتها وتنظيف شوارعها. سكان القاهرة "القديمة" لا يفهمون مَن أصحاب الأرض التي تبيعها الدولة (الممثلة في السلطة العسكرية) لطبقة الأثرياء، فالأرض أرض المواطنين مع ذلك لا يملكونها، السلطة تفرض نفسها كمحتل، وأصحاب الأرض يعيشون بلا بيوت أو في بيوت مهددة بالسقوط في أي لحظة.

     لا يمكن قراءة العمارة في القاهرة الجديدة، إذن، على ضوء أناقتها باعتبارها نقطة لصالح النظام، إنما نقطة تؤخذ عليه، لأن المعمار هنا ليس معمارًا عموميًا يفيد منه المواطن، إنما صارت الدولة شركة استثمارية، وصار المواطن مجرد زبون.

     في هذا التحول ثمة أدب جديد سيظهر، سيكون أدب الكومباوند، سيختلف بالتأكيد عن أدب التسعينيات العشوائي، وسيختلف عن أدب أول الألفية الثوري أو التجريبي، وربما يكون سؤاله الأكبر هو سؤال العزلة، هذه اللعنة التي فرضتها عليهم الأسوار والبوابات والحرس. 

الأحد، 6 ديسمبر 2020

فيلم "المؤلف": الخيال يكتب الواقع

    هل يمكن أن تخلق ورش الكتابة كاتبًا؟ السؤال الذي تطرحه صفحات الثقافة بالجرائد، والذي يدور في الغرف المغلقة للكُتّاب المتحققين، التقطه الروائي الإسباني الشهير خابيير ثيركاس ليعالجه في روايته "الموبايل"، ليطرح سؤالًا حول الكاتب المأزوم، أو بالأدق الطامح إلى أن يكون كاتبًا. لكن السؤال لم يتوقف عند الرواية، إذ التقطه المخرج مانويل مارتين كوينكا في فيلمه El autor  "المؤلف" (الذي تُرجم للإنجليزية بعنوان The motive)  ليصنع فيلمًا لافتًا، استطاع من خلاله أن يجسّد مأساة كاتب بلا خيال، وتزييف عالم ورش الكتابة، وأن يُنطِق شخصياته، سواء المدرّب في الورشة أو من يتطلع للكتابة، بعبارات شديدة الدلالة وبأسئلة تخرج من قلب الكتابة ذاتها، حول الواقع والفن والمسافة بينهما، حول البحث عن الصوت الخاص، حول كيف يمكن، أو لا، أن يستغل الفن الأشخاص العاديين ليصنع منهم أبطالًا. بشكل ما، كانت هذه طريقة المخرج نفسه في خلق فيلمه، إذ اختار محاميًا يعمل في مكتب كاتب عدل، ومدرّبًا لم يحقق نجاحًا في عالم الكتابة، وممثلة كاتبة كل مجدها أنها صارت أفضل ممثلة في مدينتها عبر علاقة مع مخرج يمنح هذه الجوائز، وهي نفسها كاتبة لكتاب بست سيلر حقق مبيعات غير أنه لم يبلغ القيمة. أما بقية الشخصيات الفرعية فهم أشخاص عاديون نالهم ما نالهم من الإحباط: سيدة كبيرة هي مغنية محبطة تتفرغ لرئاسة اتحاد ملاك العمارة، وعسكري سابق، وزوجان من المهاجرين المكسيكان يعانيان ما يعانيه أي مهاجر في وسط الأزمة الاقتصادية.

     بهذه المروحة من الشخصيات القليلة، التي تقوم بأدوار ثانوية بجوار البطل نفسه، صنع المخرج فيلمه. وبهذه الشخصيات القليلة والمتنوعة، صنع البطل (المؤلف) شخصيات روايته الأولى التي أصر القدر/المصير/ الحياة، أن تضع نهايتها. نحن أمام فيلم يتناول ورش الكتابة ليسخر منها، ويتناول أزمة "من يريد أن يخلق من نفسه كاتبًا" ليسخر منه، من دون أن يصرح بذلك على الإطلاق، لكنه يحمله حتى النهاية المنتظرة. إنه فيلم يعالج الأوهام، أوهام الفن، ليضع حدًا فاصلًا بين أن تكون محبًا للكتابة وأن تكون كاتبًا بالفعل. وفي الوقت الذي يطلق فيه أحكامه حول كيف يمكن أن تكون كاتبًا، يقوّض بنفس الذريعة هذه الطرق.

     ينطلق الفيلم من مشهد مجازي، رغم إن الفيلم يعادي المجاز وينتصر للواقعية تماهيًا مع مضمونه، حيث البطاريق كلها تسير في طريق واحد، فيما يخرج بطريق منفردًا ويتوجه صوب الجبل. إنه الكاتب الذي يخرج عن القطيع، وهي أولى صفات الكاتب لكي يكون كاتبًا. بهذه البداية، التي جاءت في شاشة عرض داخل ورشة كتابة، تُسلَط الكاميرا على البطل الجالس في صالة العرض وهو متأثر تهرب دموعه. إشارة أولى لشغف البطل بالكتابة، شغف لن يعني بعد ذلك أنه يمتلك الموهبة، حتى لو سار وحيدًا مثل بطريق.


     ما الكتابة؟ كيف تخلق شخصيات؟ من أين تستلهم الأحداث؟ هذه أسئلة جوهرية داخل الورشة، يجيب عنها المدرّب بـ "الواقع"، الحدث يجب أن يكون واقعيًا، الشخصيات من لحم ودم، تصوير الواقع الاجتماعي هو الرواية، لا مجال، إذن، بالنسبة للمدرّب، للتأليف أو التخيل، الكاتب بالنسبة له مجرد حكّاء للواقع، مجرد ناسخ، عين كاميرا متجولة، وليس عليه إلا أن يجد صوته الخاص ليعبّر عن هذا الواقع، لكن الصوت الخاص نفسه لا يجب أن يكون فارقًا، إنما أن يتتبع تسلسل الأحداث في نفس الواقع. لكن، لكي يجد الكاتب صوته الخاص ككاتب، يجب أن يعرف لماذا يحدث الحدث ولماذا الآن، وبنفس منطق المدرّب يطوّر المخرج الحدث: خيانة زوجية ستدفع البطل لحكاية الواقع، وبانتقاله لبيت جديد يقرر أن يكون سكان البناية هم أبطال روايته.

     تنطلق رواية الكاتب، إذن، من بناية سكنية تقع في مدينة إشبيلية، يسكنها أشخاص متنافرون: العسكري السابق يعاني الوحدة بعد موت صديقه الذي كان يرافقه لعب الشطرنج، والمطربة العجوز المحبطة وحيدة بعد أن هجرها زوجها، والمهاجران المكسيكيان يعانيان من تهديد الطرد من العمل. شخصيات مثالية لحكاية رواية واقعية اجتماعية: شخصيات محددة أحادية الجانب، لا يشغلها شيء أبعد من اللحظة. أما زمان الحدث فهو "الآن". وفي هذه التركيبة يجد المبرر الفني لحكايته. من هنا تبدأ "رواية" البطل لتندمج في "فيلم" المخرج، هنا يعمل الميتافيكشن السينمائي لتختلط الحكايتان. التسجيل المباشر للواقع، التسجيل بمعناه الحقيقي بمعنى فتح الموبايل ووضعه على نافذة المطبخ لالتقاط حوارات العائلة المكسيكية، كان وسيلة "الروائي" للكتابة" يضاف إليها وسيلة الاطلاع على حكايات السكان عبر رئيسة اتحاد الملاك أثناء بناء علاقة حميمية. الواقع المُشاهَد، ببساطة، يتحول إلى واقع مكتوب، من دون أن يمر بمجمرة الفن، والمباشرة هي سلاح "الروائي" لينجز عمله الذي خطط أن يكون "واقعية اجتماعية". أما المرجعية الروائية فهي همينجواي وكاميلو خوسيه ثيلا. وطريقة استدعاء الإلهام هي وضع الخصيتين على المنضدة، بحسب نصيحة المدرّب اتباعًا للكاتب الأميركي. بهذه البانوراما، يسير الفيلم في طريق "الباروي" أو المحاكاة الساخرة، فيما تسير الرواية في طريقها الجاد. صراع بين مخرج الفيلم وكاتب الرواية المنتظرة، سخرية مبطنة تجسّد ألم استدعاء الكتابة، ألم استخراج ماء من صحراء. "أنت لست كاتبًا"، عبارة تقولها زوجة الكاتب يمكن أن تلخص مأساته، وزيف أن تخلق كاتبًا من شخص بلا خيال ولا موهبة.


      الشخصيات المأزومة في الفيلم/الرواية تتجه نحو مصائر محتومة: الزوجان المكسيكيان يساقان إلى قتل العسكري السابق وسرقته، ورئيسة اتحاد الملاك تعود إلى عزلتها بعد هجر المؤلف لها، والروائي إلى السجن بعد اتهامه، بالباطل، أنه قاتل العسكري. لقد تحققت روايته في الواقع، هو من خطط لكل ذلك ليحرّك الشخصيات في البناية، ليصنع حدثًا، لكنه لم يتوقع النهاية، لأنه كاتب بلا خيال. بهذه النهاية، تقدم الحياة الحل إلى الروائي ليختم عمله الأول بخاتمة لم يكن يتوقعها، وإن كان يخطط لها، بمعنى أنه طورها في الواقع ودفعها حتى يستطيع أن ينسخها في روايته: الحدث يجب أن يحدث في الواقع ليكتبه، ليكون بذلك كاتبًا بحسب ما علّمه المدرب. بذلك قدّم له القدر خدمة لا تُنسى حين انتهت قصته بالسجن. نهاية غير تقليدية لكاتب تقليدي. الخيال هو الذي كتب الواقع.

    لقد تخلى المخرج عن عناصر هامة في الحياة "الواقعية" ليؤكد على تماهيه مع رواية المؤلف، فغاب الحلم أو أي إشارة له، غاب التأمل والاستبطان والتحليل النفسي، غابت أسئلة المؤلف عن الحياة أو طرحه لسؤال فلسفي، بل وغابت حتى الذكريات. لينصب الفيلم، كما الرواية، في "الواقع الظاهر"، هذه القشرة الأولى التي لا تحمل إلا تصورات سطحية عن الإنسان وعن الشخصيات الفنية. من هنا يأتي نجاح الفيلم وتميزه: المخرج يتبنى تصور المؤلف والمدرّب ليمد الخيط على آخره: الواقع فقير، غير صالح لصنع الفن إلا بعد عبوره بتصورات جمالية والتعمق فيها. نجح الفيلم أيضًا في موسيقاه وفي أغانيه، فجاءت الأغاني معبّرة عن حالة الوحدة التي عاشها البطل. بمعنى آخر، تميُّز الفيلم جاء من استخدام تقنيات فنية غير متحققة في الرواية لطبيعة كل فن. يمكن أن نقول إن المخرج صنع الفن الذي أراده في بداية الفيلم (قبل أن تبدأ الرواية) وفي نهايته (بعد نهاية الرواية) كأنه فتح قوسين، ومن خارجهما كان يسخر من مضمون فيلمه. ورش الكتابة التي قضى فيها البطل ثلاث سنوات لن تخلق كاتبًا، هي الرسالة ممررة عبر الأحداث.