الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

الشاعر الكوبي فياض خميس: مخيلة عربية في قصيدة لاتينية



      

     فياض خميس شاعر ورسام ومترجم وصحفي كوبي من أصول لبنانية، ولد في 27 أكتوبر 1930 في "أوخوكالينتي" بالمكسيك، من أب لبناني كوبي ومن أم مكسيكية، وسريعًا ما انتقلت العائلة إلى كوبا، حيث قضى الطفولة والشباب.
     درس خميس في الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة سان أليخاندرو قبل أن يذيع صيته كفنان تجريدي، وفي سنوات قليلة أصبح عضوًا في مجموعة الرسامين الحداثيين الكوبيين التي عرفت باسم مجموعة الـ 11، والتي ضمت الكثير من الفنانين بهدف تبادل الأفكار والتخطيط لعالم أفضل. ومن هناك بدأ تكوين فكرة الثورة، غير أن هذه المبادرة تعطلت. في عام 50 رحل للدراسة في جامعة السوربون، وهناك تعرف على أندريه بريتو الذي كان أحد المؤسسين للشعرية الفرنسية لحظتها، وأتم معه معرضه الفني الأول. في تلك الفترة، كتب أيضًا أشهر قصائده، مثل "شريد الفجر"، وأهداها لـ نيكولاس جيين. وبعد 9 سنوات عاد إلى كوبا لينضم إلى واحد من أهم الأحداث التاريخية: الثورة الكوبية، والتي شجعته على البقاء في بلده بأمل أن تتحقق فكرته عن العالم والسياسة عبر سلطة يسارية تمثلت في فيدل كاسترو. وانهمك حينها في كثير من الأنشطة السياسية والثقافية مثل التعليم والرسم والكتابة، وشغل منصب ملحق ثقافي بالسفارة الكوبية بالمكسيك خلال أكثر من عقد.
     حصل ديوانه "هذه الحرية" على جائزة كاسا دي لاس أميركاس، لكنه منذ ديوانه الأول "الجفون والتراب" (1954) لفت النظر إليه واعتبره بعض النقاد "صوت الشعر الكوبي القادم"، صوت يمزج بين الواقعية والسوريالية، وبين الحلم والواقع. تلاه ديوان "المرجومة" الذي أكد تكوّن شعرية كوبية جديدة بخيال مختلف.
      الأهم أنه شغل الحياة الثقافية الكوبية طول حياته وبعد رحيله، إذ نال شهرة كبيرة على كل ما قام به من شعر ورسم، ومن المؤكد أن إنتاجه الأدبي لم يجمع بعد، إذ كان يكتب بأسماء مستعارة كثيرة، من بينها "فرناندو مورو" "أونيريو" وأحيانًا باسم مختصر: F.J.N، ولا أحد يدري إن كانت ثمة أسماء أخرى.
    عانى خميس من مرض خطير أدى لوفاته في 13 نوفمبر 88 في هافانا قبل أن يتم الثامنة والخمسين، وبعد أن ترك للعالم لوحات وقصائد جديرة بالبقاء، لذلك لن يغيب أبدًا اسم فياض خميس من كل الدراسات التي تناولت العرب في أميركا اللاتينية، وكل الأنطولوجيات الشعرية التي ضمت شعراء من أصول عربية، إذ مثلت الثقافة العربية جزءًا أصيلًا في مخيلته، وكما أصر أبوه على تسمية ابنه باسم عربي في القارة اللاتينية، أصر فياض أن يسمي ابنته بـ "روضة" كدلالة لاستمرار الأصل العربي. لكن الحقيقة أيضًا أن النقد الذي أولى اهتمامًا كبيرًا لقصيدة فياض وجد فيها الريادة في تكوين تيار طليعي شعري قادر على تجاوز الماضي، وسمات أسلوبية أبرزها البساطة والعمق، والانسيابية، بالإضافة للقدرة السردية في بناء مشهد شعري لا يتكيء فقط على المشهدية، بل على المجاز، ولا ينحاز للثورة فحسب، بل يثور من داخله على ذائقة الاتفاق، فتبدو قصيدته على غير نموذج، وإن اقتربت من نيرودا حينًا في صوتها الجماعي، ونيكانور بارا حينًا آخر في تمردها على الشعرية السائدة، لكنها تبقى دائمًا مصبوغة بصوته، بل وبتعدد هوياته.
   
هنا بعض قصائده:

قصيدة
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه حجر جوّفته الشمس
والمطر،
غير أنه طفل يموت بردًا في ميناء بـ بيرو،
غير أنه جواد ميت محاط ببقع تصف دوائر دخان أبدية،
غير أنه امرأة عجوز تبتسم كلما حدثوها عن وصفة جديدة لعمل فطائر بالمخ،
(بينما يحكون للعجوز عن عجائب التكنولوجيا والعالم الافتراضي والمراكب الفضائية)
غير أنه مسدس متأجج، قبضة مغلقة، ورقة سكروبيا، فتاة حزينة أو فرحة.
غير أنه نهر يقسم قلب الجبل؟
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه مصنع لعب أطفال،
غير أنه كتاب مفتوح مثل ساقيّ امرأة،
غير أنه يديّ عامل خشنتين،
غير أنه مفاجآت اللغة- هذا المحيط اللانهائي الذي اخترعه الإنسان كاملًا-،
غير أنه وداع العشاق في ليلة هجوم بقنابل عدوة،
غير أنه أشياء صغيرة بلا اسم ولا تاريخ
(طبق، كرسي، صواميل، منديل، قليل من الموسيقى في ريح الظهيرة؟)
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه كوب ماء في حنجرة العَطِش،
غير أنه جبل من الأطلال (أطلال عالم قديم نسفته الحرية)،
غير أنه فيلم لشارلي شابلن،
غير أنه شعب عثر على دليله،
ودليل عثر على شعب
في مفترق طرق معركة كبيرة،
غير أنه شجرة سيبا تسكب أزهارها في الهواء
بينما يجلس الفلاح يتناول غداءه،
غير أنه كلب يعوي على موته ذاته،
غير أنه صخب طائرات عند كسر حاجز الصوت
(أتخيل تحديدًا سماءنا وأبطالنا)،
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه لمبة مضاءة،
غير أنه دجاجة تنقنق لأنها باضت في الحال،
غير أنه طفل يعد فلوسه ويدفع ثمن الجيلاتي،
غير أنه حب حقيقي، يقتسم الخبز كل يوم،
غير أنه الطريق المؤدية من الظلمة للنور (وليس العكس)
غير أنه الكوليرا التي نتعذب بها جميعًا
لأننا نكافح من أجل المساواة والخبز على الأرض،
غير أنه هذا الشيء الذي يتزحلق على رصيف مبلل وهم يشاهدونه،
غير أنه جسد فتاة عارية تحت المطر،
غير أنه حافلات مترعة بالبضائع،
غير أنه أدوات تذكرنا بالعنكبوت والسحلية،
غير أنه انتصار الضعفاء،
غير أنه النهارات والليالي،
غير أنه أحلام عالم الفلك،
غير أنه ما يدفعنا للأمام نحو البشرية الرحبة؟
ما الشعر بالنسبة لك؟
جاوب بحروف واضحة، والأفضل بحروف مطبوعة.
__________
فتحت بابًا حديديًا
فتحت بابًا حديديًا،
صريره تسلل إليّ، ثم وطأت جذر شجرة،
وأبصرت نافذة مشتعلة، لكن الفجر
كان يلتهم الأوراق ولم تكوني هناك لتقولي لي
إن العالم قد تمزق وغدا مسمومًا. دخلت،
صعدت درجات السلم في صمت، فتحت بابًا آخر،
تجردت من الجوال، وجلست، قلت إني أتصبب عرقًا،
ثم شرعت في ضرب ماكينة الكلام،
ماكينة الشخير والموت (وأنتِ كنتِ نائمة، وأنتِ نائمة، وأنتِ لا تعرفين
كم أحبك)، تجردت من ربطة العنف والقميص،
ارتديت روحًا جديدة كنتِ صنعتِها لي هذه الظهيرة،
وواصلت الكتابة واللعنات، واصلت حبك وعض
قبضتي. ثم فجأة بلغتني
أصوات أخرى:
كانت تغني لأشياء مستحيلة وجميلة، وكانت
تشعل
الصباح، وتذكر قبلات تعفنت
على النهر،
شفاه قوّضت الغياب. وأنا لا أرغب في قول شيء آخر:
لا أرغب في الكلام، حتى صرير الباب ربما خدش بعنف
هواء حلمك.
ما أهمية أن أخرج أو أدخل أو أكف عن الحركة.
أخلع حذائي
وألقي به كأعمي، وبحب، في وجه العالم.
------------
تأملها: إنها جميلة جدًا، ضحكتها ترتطم بالشاطيء

تأملها: إنها جميلة جدًا، ضحكتها ترتطم بالشاطيء،
ضحكة مترعة بالغضب وبالزبد. لكن لا تحاول
أن تقول ما يخطر ببالك. إنها في عالم آخر
(وأنت لست إلا غريبًا على عينيها، غريبًا على سنها).
قل لها، على أي حال، أنك مغرم بساردينها المقلي،
خاصًة في أمسية تمطر السماء فيها نبيذًا أبيض لا يُنسى. حدّثها عن
نار وطنك الجميلة.
هي جلية وغامقة
مثل المطر الذي
يغرق مدينتها. وعيناها تتسمّر
في نقطة متحركة
بين محطة الحب وزمن مفاجيء.
أظنك تنسى أحيانًا (للحظة، هذا مؤكد)
وظيفتك ككاتب عدل، وكبشري في النهاية
تتحدث عن السياسة بعبارات شعرية.
أفضل ما تفعله أن تقنع نفسك
بأن الشعر يكمّل نقصانك،
وأن تتحقق من أنك قد عبرت حدود الرعب
والقلق،
وأن تكتب أنك ذات مساء
تجولت بالمدينة الحجرية الجميلة
لتعثر ليس على الحب
بل على قليل من الحلم
الذي يذكرك بحلم كبير.

---------- 

الثلاثاء، 27 يونيو 2017

غياب| خورخي لويس بورخس



غياب
ربما ينبغي أن أرفع الحياة الواسعة
حياة هي الآن مرآتك:
وكل صباح ينبغي أن أعيد بناؤها
منذ رحلتِ،
كم مكان غدا بلا معنى
وبلا فائدة، كما
الأضواء في النهار.
مساءات كانت مشكاة لصورتك،
موسيقى دومًا كنتِ تحفظيني بداخلها،
كلمات عن ذاك الزمن،
الآن صار حتميًا أن أقوّضها بيديّ.
في أي مخبأ أدس روحي
كيلا تلحظ غيابك
غياب كشمس لاهبة، بلا غروب،
تبرق بلا رحمة وبلا حدود؟
غياب يطوّقني
كما الحبل حول الحنجرة،
                                               كبحر نغرق فيه.

الخميس، 22 يونيو 2017

أنتظرك \ ماريو بينيديتي




أنتظرك

أنتظرك حتى يغدو الليل نهارًا،
بتنهيدات آمال ضائعة.
لا أظن أنك ستأتين،
أعرف ذلك، أعرف أنك لن تأتي أبدًا.

أعرف أن المسافات جارحة،
أعرف أن الليالي باردة جدًا،
أعرف أنك لستِ هنا.
أظن أني أعرف كل شيء عنك.
أعرف أن النهار سريعًا ما يغدو ليلًا،
أعرف أنك تحلمين بغرامي،
غير أنك لا تقولين،
أعرف أني أحمق لأني أنتظر،
وأعرف أنك لن تأتي أبدًا.

أنتظرك حين ليلًا ننظر للسماء،
أنتِ هناك،
وأنا هنا،
بحنين لتلك الأيام حيث
خلّفت القبلة طريقًا للوداع،
ربما لبقية حياتنا.
مأساًة أن أتحدث هكذا.
وحين يغدو النهار ليلًا،
وحين يخفي القمرُ الشمسَ الملتهبة،
أشعر بالوحدة، أعرف،
أبدًا لن أعرف في حياتي
مثلما أعرف الآن أني وحيد جدًا،
وأنك لستِ هنا.

لهذا الشعور أعتذر لك،
أبدًا لم تكن نيتي إهانة.
أبدًا لم أحلم بعشقك،
ولا أن أشعر بك هكذا.
هوائي ينتهي مثل ماء في صحراء،
وحياتي تفنى حين لا تهجرين داخلي.
ما من أمل لي إلا أنتِ،
وأنا لست هناك...
ولماذا لست هناك؟
ستسألين...
لماذا لم أركب هذا الباص الذي يوصّلني إليكِ؟
لأن عالمي هنا لا يسمح لي بالحياة هناك،
لأن كل الليالي تعاقبني كلما فكرت فيكِ.
ولماذا لا أنساكِ مرة واحدة؟
لماذا لا أعيش مرة واحدة؟

لماذا مرة واحدة...؟

الأربعاء، 21 يونيو 2017

شعرية\ أدريانا بانيارس



1
للحظة أتوهم مضاجعة رجل. رجل لا يحبني حقيقًة. رجل لا يحبني قليلًا.
رجل لا يحبني نهائيًا.
أدخل الشات وكلهم هو.
 بنفس اسمه، بعمره ذاته وفكاهته ذاتها.
هذه المصادفة تجعلني أفكر أن هؤلاء لا يعنون أنهم هو
بل أنا، فأنا الآن بلا شيء وبلا اسم،
أنا قد أكون أي أحد.
أنا قد أكون أي أحد وهو، رغم أنه كلهم، كلهم ليسوا إلا هو،
هو يتقرب مني، دون أن يعرف أني أنا،
يقول لي لماذا لا تأتين لبيتي
ونسمع بعض الألبومات.
2
وحيدًة أعود اليوم لبيتي. لا أحد رغب في الرقص معي ولا حتى قتل نفسه لأجلي.
نحصد ما نزرعه وأنا
لم أعرف أبدًا الإغواء بالنظر.
اليوم أكتب كمن يعزف على بيانو، لكني نسيت النوتة الموسيقية.
ألمح بردًا خفيفًا بين شفتيّ. بردًا سائلًا كأن ذاتي
داخله جدًا
مجمّدة. وهذا الدم
دمي لأني من أثرته
بلسان ميت عضته الغيرة.
لكن هذه الضربة وهذا الموت ليس ذنبي وحدي.
على حافة عينيّ المغمضتين، فوق أرض مفتوحة
لا علاقة لها بي
أختبيء.
هذه الأرض الكامنة تحت جسدك ليست لمن يرغبها. أقولها ببطء وفي صمت
كصلاة دنيوية. كمن يستدعي الرب لحظة النشوة. هذه النائمة بجوارك
ليست المرأة التي ترغبها.
وحيدة عدت اليوم لبيتي لأن أحدًا لا يرغب مراقصة جثة.
على الباركيه، ومختبأة تحت ضوء، دون فكاهة، تتحرك هي. الحركة
تقدم لها نبيذًا على البار، على عينيك وعينيّ خصمك. وأنا ثملة أتحدى هذا الجسد
 أمام فانتازيا لن تتحقق.
وأنا، من قد أمنحك كل شيء دون القدرة على قول ذلك لك
كنت قادرة على العشق هكذا دون أذى،
أصب نفسي فوق مرتبة برائحة الأرض وأخفي
هذا المشهد الفارغ الذي هو وجهي
الذي هو عناقنا ونحن نفكر في بعضنا كغريبين
الذي هو رغبتي في أن أكون هذه الأخرى التي ترغب في التعرف إليها
تلك هي البصمة الوحيدة التي يمكن للحب أن يهادينا بها. 
--------


الأحد، 18 يونيو 2017

عن ساراماجو وقصة "تعويض"



     في عام 1991 قرر جوزيه ساراماجو الانتقال نهائيًا للحياة في جزيرة لنثاروتي، إحدى جزر الكناري الإسبانية، اعتراضًا على السلطة البرتغالية التي وقفت ضده بسبب روايته "الإنجيل كما يرويه المسيح" واستجابت لتأليب الكنيسة الكاثوليكية عليه، بالإضافة لاعتراضاته الأخرى على سياسة نفس السلطة. منذ ذلك العام وحتى رحيله في 18 يونيو/ حزيران 2010 سيبقى في نفس الجزيرة التي تشبه القرية، قرية ربما تشبه قرية طفولته التي تحدث عنها في كتابه السيري "الذكريات الصغيرة". جزيرة تشبه ساراماغو نفسه وتتسق مع أفكاره حول العدالة الاجتماعية. كل بيوت هذه الجزيرة بيضاء بنوافذ وأبواب خضراء، تتكوّن من طابقين، لن تستطيع أبدًا أن تميز أحد ساكنيها بأي شيء ملحوظ. بيت ساراماجو ربما لا يتجاوز الـ 100 متر، بصالة صغيرة تضم كنبة وكرسيين وعدة صور معلقة لعائلته، بينها صورته مع بيلار دل ريو، زوجته ومترجمته التي كانت راهبة حتى تعرفت على كتاباته فتغيّرت حياتها ومنظورها للعالم، واختارت أن تهجر بيت الرب لتنتقل لبيت ساراماغو. وبغرفتين صغيرتين، إحداهما للنوم، بسرير قصير من الزان يبدو قديمًا جدًا، مستعارًا من زمن آخر، ومغطى بملاءة زرقاء، وصغيرًا حد أنه لا يكاد يضم جسدين ملتصقين، وبدولاب أيضًا من الزان بلون بني قاتم؛ وغرفة أخرى للمكتب، بها مكتب شديد القدم، خلفه كرسي حديث نوعًا ما ومكتبة خشبية في الحائط تضم كثيراً من كتب الفلسفة والسياسة والأدب، وصورة لجديه جيرونيمو وجوزيفا. يتصل البيت بحديقة خلفية صغيرة عبر بلكونة كان يفضّل أن يتناول فيها قهوة الصباح وهو يتطلع على شجراتها وزهورها، وربما يستعيد سنوات بعيدة، وبيتًا قديمًا يتكوّن أيضًا من غرفتين وحديقة، لكنه ساعتها كان يعمل راعيًا للخنازير. هنا كتب "العمى" "البصيرة" "كل الأسماء" "الذكريات الصغيرة" "الكهف" "انقطاعات الموت" "مسيرة الفيل" و"قابيل"، وهنا تلقى خبر فوزه بجائزة نوبل عام 98.


البيت على حالته منذ رحيل ساراماجو، لا شيء يحدث فيه إلا عملية النظافة اليومية التي تقوم بها زوجته كطقس لا يتغير. وأمام البيت تقع مؤسسة جوزيه ساراماجو، وتتكوّن أيضًا من طابقين، الأول يضم مكتبته الضخمة التي كانت تشغل الطابق الثاني من البيت القديم، والطابق الثاني يضم مكاتب وكنبات. إلى جانب المؤسسة بيت بيلار دل ريو، حيث فضّلت أن تعيش عقب وفاة زوجها. ويمكن اعتبار المؤسسة نقطة الإضاءة الرئيسية في الجزيرة، مكتبتها وشعلتها الثقافية، بل وأهم ما فيها لو شئنا الدقة.
 من هذا البيت تضامن ساراماجو مع القضية الفلسطينية، وفي المرات القليلة التي خرج فيها توجه إلى رام الله، ومرة أخرى توجه إلى مدريد للمشاركة في مظاهرة ضد غزو العراق. ومن هناك أيضًا تبرع بنصف قيمة جائزة نوبل من أجل سكان هايتي بعد أن ضربتها السيول. وهناك تلقى خبر اتهامه بمعاداة السامية حين وصف الاحتلال الإسرائيلي بالهمجية.


كاتب ملتزم/ كاتب مجرب


 من سن الثلاثين للستين، عاش ساراماجو حياته كناشط سياسي يساري. نشر رواية في عشرينياته لم تلق نجاحًا، وقدم روايته الثانية لناشر دون أن يتلق ردًا، فقرر التوقف تمامًا عن الكتابة. خلال سنوات شبابه ونضجه سار في كل الطرق بعيدًا عن الكتابة، عمل موظفًا في التأمينات الاجتماعية، وعمل محررًا للنصوص، وترجم بعض أعمال ديستويفسكي من الفرنسية، وتعاون مع جرائد بكتابة مقالات، لكنه بقي على مسافة من كتابة الأدب. وقبل أن يعود برواية "كتاب الرسم والخط" (1978) كان قد عاد بمجموعته الشعرية الكبيرة "قصائد محتملة".
هذا الأثر السياسي والانشغال بالشأن العام، خاصًة لأنه عضو بالحزب الشيوعي، بالإضافة لانشغاله الطبيعي ككاتب بفهم الإنسان والعالم، لن يغيب أبدًا عن أدب ساراماجو. في هذا السياق، سيكتب، أولًا، رواية تناقش وتفكك "الأسطورة المسيحية" وثانيًا "الأسطورة الأوروبية" القائمة على الديمقراطية والنزاهة والشفافية. هكذا سنقرأ له "الإنجيل كما يرويه المسيح" و"قابيل" و"تذكار الدير" كروايات موجهة لهذا التفكيك، ولن تخلو "مسيرة الفيل" من هذه الإيحاءات، كما سنقرأ له، في نقد الديمقراطية الغربية، "العمى" و"البصيرة"، وفي مرحلة أخرى سيطرح سؤال التاريخ في كل من "عام موت ريكاردو ريس" "حصار لشبونة". هذا المضمون الروائي لن تغيب عنه رؤية فلسفية ما بعد حداثية، تقوم بالأساس على التشكيك في كل الروايات وتقديم بدائل لها ربما تكون أكثر منطقية وتماسكًا، الشخصيات أيضًا ما بعد حداثية، هم أبطال ليسوا بأبطال، يصارعون طواحين الهواء كـ دون كيخوتيه، لكن الفارق الوحيد بينه وبينهم أنهم يعلمون مسبقًا عجزهم عن التغيير، لكنهم يصنعون الخلخلة لأنهم أكثر صدقًا وحقيقية من الشخصيات التاريخية، ولأن المؤلف جعلهم أكثر إنسانية في مواجهة ملحمية هذه الشخصيات. في "ثورة الأرض" سيرصد تاريخ البرتغال الحديث بداية من عام 1903 وحتى ثورة القرنفل (1974) من خلال عائلة المنحوس الريفية، عائلة من الفقراء ستكون الوجه الآخر لديكتاتورية سالازار ومناهضة الشيوعية. لن يرفع المؤلف أي مانيفيستو أحمر، بل سيسلط الضوء على معاكسات الحياة وبؤس هؤلاء في سياق حكاية مسلية ومؤلمة يتتبع فيها رحلة أجيال متتالية تتجول في الفقر المدقع. لن تنفصل هذه الرواية عن "العمى"، حيث سيصاب سكان مدينة ما بالعمى الأبيض، لتتجلى عبر هذا المرض الغريب النقائص البشرية، نقائص مجتمع ادعى الكمال فيما يعيش في الوهم، وهم العولمة والرأسمالية، حيث تذوب الهويات والثقافات المختلفة، وحيث يتحول البشر إلى مجرد رقم وسلع. ستبدو الرؤية بجلاء في "البصيرة"، حيث النقد المباشر للديمقراطية الغربية، وكشف الأيدي الأمنية التي تحرك كل شيء من خلف الكواليس، وحيث تبدو الشعوب مجرد ماريونت في أيدي الحكام، حتى لو كانت الديمقراطية في الواجهة (ملفت أن خطط الدولة الأمنية تشبه ما حدث في ثورات الربيع العربي، خاصة في مصر، بداية من إشاعة القوى الخارجية التي تدبر الأمر وليس انتهاء بالتحقيقات والتعذيبات). هذا الخط الذي اختاره ساراماجو لنفسه، أو ربما فرضته عليه ثقافته وبيئته وانحيازه لقيم الخير، يستمر معه حتى في روايته الأخيرة غير المكتملة، والتي كتبها على سرير الموت. في هذه الرواية، التي كتب فيها ثلاثين صفحة، تناول تجارة السلاح في العالم الغربي، وهو موضوع ساخن جدًا، خاصًة بعد أن بدأ اليسار الغربي يوجه انتقاداته للحكومات التي تصنع الموت، فيما يرد اليمين بأنه لولا هذه التجارة ما عاش الغرب في مجتمع الرفاهية. هنا يأتي ساراماجو لينتصر، في صفحات قليلة ناقصة، لحيوات الإنسان، ومنتقدًا ثقافته نفسها.
التاريخ والدين والسياسة، ثالوث أعمال الكاتب البرتغالي، لكنه يقدمها بأرق الطرق الممكنة، مستعينًا بالمجاز حينًا، وبالسخرية حينًا، وبالفانتازيا حينًا آخر، ليقدم مادة جمالية صافية تتسق مع الفن الروائي وتضيف إليه طرائق جديدة للسرد. من هنا نلاحظ موقع السارد، وهو سؤال ملّح عند الكاتب البرتغالي، إذ ليس ساردًا معتادًا (لا هو السارد العليم بصورته المعروفة، ولا السارد المتكلم ولا المخاطب). نحن، عادًة، أمام سارد ثالث نكتشف مع الوقت أنه متورط في الحدث لأنه أحد أفراد الرواية. وإن اتبع ساراماجو الترتيب الكرونولوجي للأحداث، ما يقربه من الحداثية الروائية، إلا أنه يكسر هذه الرتابة بكسر الإيهام، بكسر بريختي يجعلنا نحن القراء جزءًا من اللعبة، كما يتحول هو من سارد لشخصية. بمعنى ما، يمكن اعتبار ساراماجو وريثاً شرعياً لكافكا ولبورخس، غير أنه أكثر تجسيدًا منهما، أكثر قربًا من السؤال الجمعي، وحين يفعل ذلك يتناول الجماعة كأفراد. 
أخيرًا، هنا قصة "تعويض" لساراماجو، نقدم ترجمتها بالعربية في الذكرى السابعة لرحيله.   
 


تعويض
كان الولد قادمًا من النهر، حافيًا، وببنطلون مشمّر حتى فوق الركبتين، وبساقين مكسوتين بالطين. كان يرتدي قميصًا أحمر مفتوح الصدر، وكان زغب الصبى قد تنامى. كان شعرًا أسود، يبلله عرق ينزلق من رقبته النحيلة. كان يسير مائلًا قليلًا للأمام، تحت ثقل مجدافين طويلين يتعلق بهما خيط أخضر من الطمي لا يزال ينز ماءه. فيما بقي المركب يتأرجح في الماء المموج، وهناك، بالقرب منه كأنها تتجسس عليه، بزغت فجأة عينان جاحظتان تبين أنهما لضفدعة. نظر إليها الولد، ونظرت هي إليه. ثم أومأت الضفدعة بفظاظة واختفت. بعد دقيقة عاد سطح الماء ناعمًا ومستكينًا، ولامعًا مثل عينيّ الولد. أما الطمي فكان ينزلق ببطء محدثًا فقاعات غازية يسحبها التيار. وفي حر الظهيرة القائظ كانت شجرات الحور السامقة تهتز في صمت، وفجأة وُلدت زهرة سريعة من الهواء، طائر أزرق مشّط الماء. رفع الولد رأسه. ومن الضفة الأخرى للنهر كانت ثمة صبية ثابتة تنظر إليه. رفع الولد يدًا في الهواء ورسم بجسده كاملًا إيماءة بكلمة لم يسمعها أحد. بينما كان النهر يسيل، بطيئًا.
 تسلق الولد الطريق الصاعد من دون الالتفات للوراء. وهناك انتهى العشب في المكان نفسه. وفي المكان المرتفع، بعيدًا، كانت الشمس تطوق الأرض البور وشجرات الزيتون الرمادية. وكانت حشرة الزيز، بصوت معدني وفظ، تقطع الصمت. فيما كان الفضاء يرتجف.
 كان البيت منخفضًا، قصيرًا، مشيدًا من الحجر بخط من الرصاص البنفسجي. له جدران صماء، بلا نوافذ، غير أن له بابًا صغيرًا. في الداخل، ترطب الأرضية الطينية الأقدام. ركن الولد المجدافين وجفف عرقه بمعصمه. استراح ليسمع ضربات قلبه، فيما كان منبت عرقه يتجدد على بشرته. ظل هكذا لعدة دقائق، من دون وعي بالأصوات القادمة من وراء البيت، والتي استحالت فجأة عواء حادًا ومجانيًا: اعترض خنزير مربوط. في النهاية، حين بدأ في التحرك، ضربته في أذنيه صرخة الحيوان، فآلمته وأهانته. وفي الحال سمع صرخات أخرى، حادة، متلهفة، متوسلة بيأس، نداء لا ينتظر النجدة.
ركض نحو الممر، لكنه لم يتجاوز عتبة الباب. كان ثمة رجلان وامرأة يمسكون الخنزير. ورجل آخر، بسكين متخثر بالدم، يفتح طريقًا طوليًا في وعاء الخصيتين. وفي التبن كانت تلمع خصية مبتورة، وحمراء. فيما كان الخنزير ينتفض، مطلقًا صرخات من هيكله المطوق بحبل. والجرح كان يتزايد، والخصية بدت حليبية بخطوط من الدم، وأصابع الرجل تدخل في الفتحة فتسحب ما تجده وتنتزعه وتلقيه. والمرأة كانت شاحبة وممتعضة. ثم فكوا الخنزير وحرروا خطمه، وانحنى أحد الرجلين والتقط القطعتين السميكتين والناعمتين. استدار الحيوان حائرًا، وأطرق، وبصعوبة التقط أنفاسه. حينئذ ألقاهما الرجل إليه، فعضهما الخنزير، مضغهما متلهفًا، وبلعهما. تفوهت المرأة ببعض الكلمات، والرجال هزوا أكتافهم. أحدهم ضحك. في تلك اللحظة شاهدوا الولد عند عتبة الباب، فتلجمت ألسنتهم كأنهم عجزوا عن فعل شيء آخر، ونظروا للحيوان الملقى على التبن، متنهدًا، بخطم ملوث بدمه.
 عاد الولد للداخل. ملأ الطاسة وشرب، وترك الماء ينهمر من جانبي فمه مرورًا برقبته ووصولًا لشعر صدره الذي بات أكثر سمرة. أثناء ذلك كان ينظر لبقعتين حمراوين على التبن، ثم خرج من البيت مجددًا بإيماءة إرهاق، واجتاز مجددًا شجرات الزيتون تحت لهيب الشمس. التراب الساخن كان يحرق قدميه وهو، دون أن ينتبه، كان يسرع الخطى ليهرب من الملمس الحارق. وحشرة الزيز كانت لا تزال تئز بصخب يصيب بالصمم. وبعد المنحدر، ظهر العشب برائحة المياه الدافئة، والرطوبة الأخاذة تحت ظلال الشجر، والطمي الذي يتسلل بين أصابع القدمين ويعلوها.
 استكان الولد وتأمل النهر. وعلى سطح الطمي ظهرت ضفدعة، غامقة مثل الأولى، بعينين مستديرتين تحت مظلتين ناتئتين، كأنها تنتظر. كان جلد معدتها الفاتح يختلج، وفمها المغلق يشبه طية مضحكة. مرت برهة من دون أن يتحرك الولد ولا تحركت الضفدعة. حينئذ، مغيرًا وجهة عينيه بصعوبة، كأنه يهرب من لعنة، شاهد على الضفة الأخرى للنهر، بين أفرع شجرات الصفصاف الأبيض المنخفضة، الفتاة مرة أخرى. ومرة أخرى، صامتًا ومتفاجئًا، عبر فوق الماء برقٌ أزرق.
  تجرد الولد من القميص ببطء. وببطء غدا عاريًا، وحين انتزع كل ثيابه، تجلى عريه، ببطء. هكذا كأنه تخلص من عماه. والفتاة كانت تنظر له من بعيد. ثم، بحركات بطيئة، تجردت هي الأخرى من فستانها ومن كل ما يسترها. وظلت عارية وراء الشجرات الخضراء.
 تأمل الولد النهر مرة أخرى. كان الصمت يسود في سطح سائل ولا نهائي. دوائر تطول وتتوه في السطح الرائق لتكشف مكانًا غرقت فيه الضفدعة في النهاية. حينئذ غطس الولد وسبح حتى الضفة الأخرى، فيما كانت تتوارى تضاريس الفتاة في ظلال غصون الشجر.