الجمعة، 11 ديسمبر 2020

عندما كنا عربًا: قراءة جديدة في تاريخ العرب في إسبانيا

 

     كيف تكوّنت صورة ذهنية مليئة بالمغالطات حول الإسلام في أوروبا؟ وكيف أثّرت هذه الصورة على النظر إلى التاريخ الأندلسي واعتباره فترة سيئة في تاريخ إسبانيا؟ من هذه الأسئلة ينطلق المستعرب والمؤرخ الإسباني إميليو جونثالث فيرّين في كتابه الذي أحدث صدى كبيرًا "عندما كنا عربًا"، الصادر حديثًا عن دار الموثارا الإسبانية.

     نقطة الانطلاق الأولى هي "الذاتية"، إذ يؤكد فيرّين منذ السطور الأولى أن كل عمل بحثي هو بالأساسي عمل ذاتي وليس عملًا موضوعيًا، ينطبق ذلك على عمله هذا كما ينطبق على كل الكتب والأبحاث الأخرى. من هنا يعلن انحيازه من اللحظة الأولى للثقافة الإسلامية، الثقافة التي عرفها من خلال معايشته لها في الدول العربية خاصةً المغرب، والقاهرة التي قضى بها سنوات لإنجاز أطروحة الدكتوراة. لكن انحياز فيرّين وذاتية العمل، الذي يضم جزءًا لا بأس به من سيرته كمستعرب، لا يعني أنه يتخلى عن فرض الافتراضيات والوصول للبراهين بحسب المنهجية الأكاديمية، بل يعني أنه من هذا الانحياز سيختار نماذج للأعمال التي تناولت بالسلب التاريخ الأندلسي لينقدها من داخل ذاتها، مفككًا إياها من ناحية، ومشيدًا رواية أخرى كانت معروفة ثم صارت متجاهلة لأسباب أيديولوجية، ليضيف إليها رؤية تاريخية أكثر رحابة وأكثر التصاقًا بواقع اليوم.

     يؤسس المؤلف في الفصل الأول للمنهج الذي يتخذه لتوضيح نظريته للإجابة عن هذين السؤالين: ثمة فارق واضح بين الإسلام كدين، الإسلام كثقافة، والمجتمعات الحديثة. الإسلام كدين هو النص القرآني، والثقافة الإسلامية هي المنتج الثقافي المبني من جراء التحام النص بالواقع والمجتمع، أما المجتمعات الإسلامية الحديثة فهي نتاج آخر ومختلف ساهمت عوامل كثيرة في تكوينه. يذهب فيرّين إلى أن المجتمعات الإسلامية الحديثة ليست انعكاسًا لمجتمع القرون الوسطى الإسلامي، ولا هي، بالطبع، أنموذج واقعي للنص القرآني، وبالتالي لا يمكن الحكم على مسلمي اليوم باعتبارهم "التمثيل" الواقعي للدين الإسلامي، لأن كل بلد إسلامي له خصائصه، ولأن كل فرد مسلم له شروط حياته المختلفة، ولأن التأويلات النصية تختلف من زمن لزمن ومن جماعة لجماعة. بهذه النقاط، يسعى فيرّين لإزالة اللافتة التي يرفعها الغرب عند النظر للمسلمين، سواء داخل المجتمع المسلم أو داخل أوروبا ذاتها، لينتقد عبر هذه الرؤية وسائل الإعلام التي لا تكف عن الربط بين الإسلام والإرهاب، والخلط بين قضايا الهجرة والدين الإسلامي، وتكوين رؤية سلبية حول حقبة الأندلس من خلال الممارسات اليومية لمهاجرين مسلمين أو قضايا سياسية عربية، ما يجعل المواطن ينظر إلى الطفل السوري اللاجئ لا باعتباره طفلًا لاجئًا، بل تمثيلًا لكل هذا الصراع الثقافي والسياسي القديم، إنه طفل مسلم في نهاية المطاف.

     لا يتجاهل فيرّين أداءات وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة اتجاه كل ما هو مسلم، بل يلتفت إلى قدرتها على خلق رأي عام وثقافة عامة تردد عباراتها الخاطئة، ليرصد الفارق الكبير بين كلمة "جهاد" في النص القرآني ككلمة تحث على الدفاع عن النفس كما تعني جهاد النفس ضد شرورها، وبين كلمة "جهاد" الإعلامية التي تعني الاعتداء الإرهابي ضد مواطنين "غير مسلمين" أو غربيين بالتحديد أو في أرض غربية. سوء الفهم، أو الجهل المتعمد، أحد مرتكزات الكتاب الذي يسعى لوضع النقاط فوق الحروف، كمحاولة جديرة بالنظر إليها لفهم الإسلام كدين وكثقافة. لكن فيرّين، وهو إسلامولوجي كذلك، لا يسلط الضوء هنا على "الدين الإسلامي" إلا في حدود الاستدلال بما فيه لإثبات نظرية، إنما يعمل على "الثقافة الإسلامية" التي كان لها الأثر الأكبر في التنوير الأوروبي. من هنا يرى أن كتاب "حي بن يقظان" لـ بن طفيل أحد أهم الكتب الأندلسية التي أدت إلى الحداثة الأوروبية أو التنوير الأوروبي. الإشارة لكتاب ابن طفيل يأتي في سياق الرد على مدعيّ أن فترة الأندلس أدت لتأخر إسبانيا عن اللحاق بركب التنوير الأوروبي، وهي أطروحة يتبناها العديد من المؤرخين الإسبان، لذلك يعتبرون فترة الأندلس مجرد "غزو واسترداد" ويلخصونها في حروب ومعارك انتهت بالطرد. ما يعتبره فيرّين تجاهل لجزء أصيل ورئيسي في التاريخ الإسباني، ويتبنى أن الأندلس منتج ثقافي عربي وإسباني معًا، وهي ثقافة أنتجها هذا المزيج الحضاري، وينفي أن تكون إسبانيا "مجتمعًا سعيدًا ومتحضرًا غزته قبائل صحراوية"، ويشير للتبادل الثقافي السابق على الدخول الإسلامي، كما يؤكد على الفصل ما بين الأندلس كتاريخ أصيل في التاريخ الإسباني وبين ما يعيشه العالم العربي اليوم من أزمات.


     في كل ذلك، يذهب إميليو جونثالث فيرّين إلى طرح أسئلة حقيقية حول التاريخ: "التاريخ ليس ما حدث، إنما ما نرويه"، بهذه الرؤية التفكيكية يعيد النظر في التاريخ الأندلسي، ويضرب مثلًا: لو أننا كتبنا اليوم عن روسيا الحرب الباردة، ماذا سنكتب؟ وإلى أي مدى ستتسق هذه الكتابة مع المدوّن عن هذه الفترة خلال حدوثها؟ وإذا كنا نتكلم عن روسيا كتاريخ حديث، فما بالنا بتاريخ الأندلس القرنوسطي. هكذا ينطلق فيرّين من رؤية تأريخية تسعى لقراءة تاريخية تهدف الهدم، رؤية تتبنى "ما بعد الحقيقة" لتبرهن على عنوان الكتاب ذاته "عندما كنا عربًا"، عندما كان الإسبان عربًا، وهي تذكِرة وتمجيد لفترة الأندلس، لكن ليس بوصفها منتجًا عربيًا خالصًا. الأطروحة تؤكد على أن العرب لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا الإسبان يعرفون أنهم كانوا عربًا.

     بهذه الرؤية التي يدور حولها الكتاب، بهذه الأطروحة، لا ينتصر فيرّين للثقافة الإسلامية فحسب، بل في الحقيقة ينتصر لتاريخ إسبانيا نفسه، الذي لا يمكن قراءته من دون ثمانية قرون هي مجمل الحضور الإسلامي بمساهماته العلمية والفكرية والمعمارية. وهو إذ يتناول ذلك لا يتناول القرآن كثورة أخلاقية، وقد كان كذلك بحسب المؤلف، إنما أثر القرآن في تكوين ثقافة كوّنت مجتمعات، والمجتمعات أفرزت حضارة، والحضارة أنتجت تاريخًا. هذا التاريخ لا يعتقد فيرّين أنه فعل تراكمي، إنما يقوم كل جيل بقراءة الأحداث من وجهة نظره، تحت تأثير السياق والأيديولوجيا.


    ولعل أحد أبرز نقاط الكتاب، بالإضافة للنقاط السابقة، هو أن الإسلام لم يكن إمبراطورية مثل الإمبراطورية الرومانية مثلًا، وأنه يرفض فكرة "الاسترداد" لأنه يرى أنه لم يحدث غزو من الأساس. يشير فيرّين إلى الأمة/الثقافة، وليس إلى الأمة/الدولة، الأرض كانت شبه الجزيرة الآيبيرية، ثم صارت الأندلس، قبل قيام دولة إسبانية كاثوليكية. ينتقد فيرّين "أننا نكذب على أنفسنا وعلى حاضرنا لو اقترحنا غير ذلك". وفي ذلك، رغم انتقاده للبحث الأكاديمي، إلا أن تركيز النقد موجه لوسائل الإعلام، إذ انتقل الخطاب من "أصولية الإسلام" لـ "أسلمة الأصولية"، لتخرج وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة، من حيادية تصنيف بعض المسلمين بالأصولية، للتأكيد على أن الأصولية ذاتها منتج إسلامي.

     ينصح فيرّين بقراءة كتاب خوان بيرنيت عن الأثر الإسلامي في النهضة الأوروبية، إذ يشير إلى أن فترة القرون الوسطى لم تكن معتمة كما يتصور البعض، المسألة أنها مكتوبة باللغة العربية التي لا يجيدونها، وأن فكرة "النهضة"= إعادة الميلاد، تشير إلى الحضارة اليونانية والرومانية متجاهلة الحقبة الإسلامية لهذا السبب.

     لا شك أن كتاب "عندما كنا عربًا" هو أحد الكتب الطليعية في هذا المجال، وإن كان له سابقون في الدفاع عن الحضارة الإسلامية بالأندلس، إلا أن رؤيته تظل جديدة وجدالية، جديد أيضًا حداثته، ربطه ما بين التوجهات الإعلامية وتحليل خطابها والتوجه الأكاديمي ورؤية رجل الشارع، نحن أمام كتاب "واقعي"، يلمس الأرض ويناقش أسئلة المجتمع، يقلّب صفحات التاريخ في الشارع، ويفهم طبيعة مجتمعه وطبيعة القارئ المتلقي لأفكاره. كتاب قادر على ربط الهجرة العربية إلى أوروبا بظاهرة الإرهاب واللجوء السياسي بتكوين صورة سلبية عن إسلام اليوم وعلاقته بالأندلس كتاريخ، وهي رؤية موسوعية ومتسعة نادرًا ما يتوافر عليها كتاب يتناول تاريخ الأندلس.   

  

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

من أسوار السلطة لأسوار الكومباوند: ثقافة العمران في القاهرة

 

     بالعودة إلى ابن إياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" يمكن فهم لماذا اختار العرب مدينة القاهرة لتكون عاصمتهم الإسلامية بديلًا عن الإسكندرية التي كانت عاصمة الدولة الجريكورومانية: مدينة تقع بين جبل المقطم ونهر النيل، جبل كان مكسوًا بالنبات والأشجار، فتبرع  بزرعه لجبل بيت المقدس استجابة لإرادة الله، فقرر الله أن يعوضه فزرع فيه أو حوله أولياء الله الصالحين، حيث تحول لمدفن لهم؛ والنيل الذي تدور الحكايات حول قدسيته، أحد نهري الجنة، شريان الحياة لبلدان النهر.

     من الفسطاط، الاسم الأول للمدينة والمستقر الأول لعمرو بن العاص، وحتى القاهرة الفاطمية، تمددت القاهرة نحو الشرق، صوب الجبل، وحين اتسعت الدولة شيدت أسوارًا وأبوابًا لتفصل أهل السلطة عن الشعب، لتحمي السلطان من يد الرعية ومطالبهم وتمردهم. شيّد صلاح الدين القلعة لتكون مقرًا للحكم، في دلالة أولى لهذا الانفصال، ووعد محمد علي أن يعيش في قصر بين الناس هاجرًا القلعة حين اختاره الناس، لكنه لم يحتمل أكثر من عام وعاد إلى القلعة. الخديوي اسماعيل اختار قصر عابدين، بوسط القاهرة، ليكون مقرًا للسلطة، ربما أدرك أن انفصال محمد علي عن الناس كان سببًا في جنونه وزوال سلطانه. وعمل اسماعيل على صنع "القاهرة الخديوية" التي يتميز معمارها بالشوارع الواسعة والبناية العالية والأسقف المرتفعة والزخارف الأوروبية، من رسومات وتماثيل. على عكس المعمار الإسلامي السابق: الشوارع الضيقة، البيوت المنخفضة لكنها الواسعة من الداخل، بصحن ربما يضم نافورة أو يفسح لها مكانًا، والحلى والزخارف مثل الأرابيسك والمقرنصات. عمارة اسماعيل كانت إعلانًا عن عصر جديد، انفتاحًا على أوروبا وتسليمًا بزمنها، بعصر النهضة والحداثة التي بدأت من الفكر وبلغت المعمار. لكنها في القاهرة كانت حداثة مزيفة، أخذت القشرة والسطح  وتركت العمق والجوهر. لكننا أمام سلطة أنهت زمن الأسوار، وبداية من اسماعيل غدت هذه الجدران من الماضي، فالملك أو السلطان أو الخديوي بات يعيش مع الشعب، حتى لو كان خلف حراسه.

     هذا التحول المعماري: الميادين والشوارع الواسعة، رافقه انفتاح أيضًا في المجتمع، بعثات للطلبة إلى فرنسا، مدارس للبنات. المطبعة التي عملت مع محمد علي، ظلت تعمل على نطاق أوسع، وربما كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، كنتاج لهذا الزمن، أحد أهم الكتب التي طرحت سؤال الهوية ووقف على الفروقات الثقافية بين مصر العربية الإسلامية وأوروبا العلمانية المتمثلة في فرنسا (كتاب الساق على الساق من الكتب الهامة في هذا السياق). لا يمكن فصل التحول المعماري عن الحرية، عن الزخم المجتمعي والسعي للأفضل، عن وجود نخبة ثقافية تتفاعل مع العالم وتروم الاستفادة من خبراته. تبقى القاهرة الخديوية كترميز لهذا الفكر، كما بقى معمار القاهرة الإسلامية كملخص لفكرة السلطان عن السلطة.

 


توسع عمراني، معمار فقير

     من الطبيعي أن تتوسع المدن ما دام ذلك في الإمكان، خاصة مع الزيادة السكانية. من هنا ظهرت قاهرة خلف المقطم، فصارت المدافن، التي كانت على حافة المدينة، في وسطها. تخيل: المقابر وسط المدينة، الموتى محاطون بالأحياء في كل مكان. اضطر عبد الناصر لقطع جبل المقطم، لقسمه نصفين حتى لتبدو قلعة صلاح الدين فوق جبل منفصل، ليتوسع في القاهرة شرقًا، في مد لخيط الأسر الإسلامية السابقة على محمد علي. أي معمار اختارت دولة عبد الناصر؟ بناية بلا صلة بالمعمار الإسلامي ولا بالمعمار الأوروبي، بناية خالية من أي زخرفة أو جمال، مجرد صب لأسمنت فوق حجارة، بلا ميدان كبير يمكن أن يكون متنفسًا للمدينة. لا يمكن أن نَصِفه بالمعمار القبيح، لكنه المعمار المتقشف، الوظيفي، معمار لا يراعي البعد النظري. بطريقة ما، يمكن أن نسميه معمارًا اشتراكيًا، يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا النوع من المعمار هو الخطوة الأولى اتجاه الإسكان الاجتماعي، إسكان الطبقة الوسطى الجديدة، حيث البيوت الضيقة ذات السقف المنخفض، بالتوازي مع ظهور الإسكان العسكري للضباط وصف الضباط. لقد عكس النسق المعماري فلسفة ثورة يوليو، السعي لطبقة واحدة لا يعلوها إلا طبقة الضباط، وخلق مجتمع متشابه يسود فيه التعليم المجاني ليغطي الجميع ويحاول إتاحة الفرص بالتساوي، لكنه لا يترك مساحة للحرية ولا يهتم بالبعد البصري.


من العشوائية للكومباوند

     السياسة المعمارية ستزداد سوءًا مع الوقت، سيتوسع الإسكان الاجتماعي كمًا لكنه سيكون علامة قبح وعدم احترام للمواطن (الفقير في هذه الحالة، طبقة موظفي الدولة). في التسعينيات ستزداد العشوائية، البنايات غير مشطبة الواجهة، حيث انتهت عند الطوب الأحمر، البنايات التي غزت الأرض الزراعية ضد إرادة الدولة، القمامة التي باتت منتشرة في كل مكان مع غياب ملفت للحاويات، توسع المدينة في غرب الجيزة (6 أكتوبر) كان طوق نجاة، لكن المعمار سيطر عليه الطابع الاجتماعي الفقير، حتى البنايات الأهلية اتخذت نفس الشكل. الأكاديمي صبري حافظ التفت لهذا التوسع العمراني وهذه العشوائية، وربطها بالأدب المكتوب في فترة التسعينيات. توصل حافظ في دراسته إلى أن الكُتّاب باتوا بلا أمل بعد انهزام القضايا الكبرى (يقصد بها القومية العربية) فراح أدبهم في اتجاه الهم الفردي والاجتماعي لا السؤال السياسي، وبالفعل جسّد بعضهم، بحسب حافظ، هذه العشوائية العمرانية.

     التوسع العمراني في شرق القاهرة (لربط القاهرة بمحافظات القناة) تحققت منذ بداية الألفية. ظهرت بالتوالي مدن مثل الرحاب ومدينتي والشروق، كضواحي من أجل طبقة الأثرياء، وتوسعت الجيزة في المقابل بهدف ربطها بمحافظتي الفيوم والواحة البحرية، فاتسع حي 6 أكتوبر. مع هذا التوسع ظهر "مجتمع الكومباوند"، لتظهر من جديد مدينة الأسوار العالية. ورغم أن هذه المدن ظهرت في نهاية عهد مبارك، إلا انها اتسعت منذ بعد ثورة يناير. لقد أدى الانفلات الأمني التالي للثورة إلى إثارة الخوف في الطبقة الوسطى العليا (التي تضاءلت وانكمشت) والطبقة العليا، فكان خيارهم هو المدينة المسوّرة. كما ساهمت الدولة في هذا الاتجاه بنسبة كبيرة، إذ باعت الأراضي بأسعار رخيصة لرجال الاعمال (في صفقات فساد ورشوة) وساهمت بتوصيل الخدمات من ميزانية كان يجب ان تخصص للفقراء ومحدودي الدخل، لتوفر لهذه الضواحي كل الخدمات. وفي الوقت الذي ادعت فيه الدولة أنها تفعل ذلك من أجل التنمية، كان الجميع يعرف أنه ليس بوسع أحد العيش في هذه الضواحي، باستثناء الأثرياء. "مجتمع الكومباوند" في خلال سنوات قليلة بدأ يفرز ثقافته، ثقافة التبرؤ من الثقافة العربية واللغة العربية، وتبني الثقافة الغربية واللغة الإنجليزية كلغة للكلام، وثقافة التعالي على الساكنين خارج ضواحيهم المعزولة. ضمت هذه الضواحي المدارس الدولية والجامعات الأجنبية، ودعمًا لهم، لهذا المجتمع الثري على هامش القاهرة الثقافية الفقيرة، دعت الدولة لإنشاء "العاصمة الإدارية" حتى توفر لهم كل الخدمات، بطريقة تبدو كهجر الزوجة الأولى من أجل الزوجة الجديدة.


     لا يحتاج سكان القاهرة الجديدة، المقيمون في الكومباوندات وخلف الأسوار، إلى الخروج من ضواحيهم، ولا يحتاج أبناؤهم إلى الاحتكاك بالساكنين خارج الأسوار. هذا النوع من التوسع العمراني أفرز معماره، بنايات على شاكلة الشاليهات والفيلل، وبنايات أنيقة من خمسة طوابق، ومساحات خضراء واسعة، وأندية رياضية. أحياء كان يستحقها سكان القاهرة جميعهم، لكنها خُصِصت فحسب للأثرياء، ومن أجل حمايتهم كان يجب رفع الأسوار والبوابات. بطريقة ما، يتشابه الأثرياء اليوم مع أهل السلطة في الدولة الإسلامية، قلاع يحيط بها حراس لحمايتهم من الشعب. الفارق الجوهري أنهم من أبناء الشعب، وليسوا من أهل السلطة، وإن كان أهل السلطة يعيشون بينهم.

     كانت القاهرة، بالطبع، تتميز من قبل بأحياء راقية، أحياء احتفظت لنفسها بمعمار مميز وحياة هادئة، مثل الزمالك والمعادي والدقي ووسط البلد، مقارنة ببقية الأحياء. لكن هذه الأحياء كانت مفتوحة على الأحياء الشعبية، كان يمكن دخولها والتجول فيها والاختلاط بأهلها والتعليم بمدارسها، سواء الحكومية أو التجريبية ثم الخاصة. هذا النوع من الاختلاط كان يخلق نوعًا من الألفة. لم يشعر سكان هذه الأحياء الراقية بالغربة في التعامل مع الطبقات الشعبية، ولا العكس. كانت المسألة محصورة في إدراك كل طبقة للفوارق الاجتماعية والثقافية بدون أن يحدث ذلك صدامًا، كانت المعاملات اليومية بها نوع من الرضا والاحتياج، تأدية خدمات مقابل أموال، أبواب رزق مفتوحة وخدمات تقدم تفتح بيوت الفقراء. حتى التعالي الملحوظ في أبناء الطبقة العليا كان يمكن السخرية منه والضحك عليه، حتى كان يتحول مع الوقت إلى مراهقة فكرية.

     كل ذلك لن يتحقق مع "مجتمع الكومباوند"، ففي الوقت الذي ظنوا فيه أنهم تحرروا من المجتمع، كانوا في الحقيقة يسجنون أنفسهم خلف أسوار لا نهائية، وحين تأتي لحظة الاضطرار للخروج والتعامل مع المجتمع الأصلي سينتبهون إلى أنهم صاروا غرباء بالفعل. لقد تعلموا لغة ليست لغتهم، وثقافة ليست ثقافتهم، وربما تكون نيويورك أقرب إليهم من القاهرة.

      لقد خلقت ثقافة الكومباوند مجتمعًا مشوهًا، بلا هوية، يعيش بهوية متبناة، بأقنعة صغيرة لا تليق على وجوههم الكبيرة، فلا تغطي إلا أعينهم، فلا يرون لكنهم مرئيون. هذا ليس تنوعًا في طبقات المجتمع ولا في ثقافته، إنما خلق مسوخ تتبرأ من أصولها، وإذا كان الآباء (وهم اليوم لا يزالون في الثلاثينات والأربعينات) يمكنهم التفاعل مع مجتمع يرفضونه لكنهم تربوا فيه ويفهمونه، فالأزمة ستكمن في أبنائهم الذين ولدوا مسلوخين من ثقافتهم، فالأسوار التي اختارها آباؤهم ليعيشوا خلفها ليست فحسب أسوار الكومباوندات، إنما أيضًا الأسوار النفسية. ففي عقيدتهم، كل من يسكن خارج الأسوار ليس من طبقتنا، ولا من مجتمعنا، إنهم الأوباش الذين يعارضون السلطة ويتذمرون منها ويسعون لهدم الدولة، إنهم الأوباش الذين يسعون لامتلاك ما لا يعملون من أجله، إنهم اللصوص الذين يهددون سلامنا داخل كومباونداتنا المسالمة، داخل مدينتنا الفاضلة.


     وسكان خارج الأسوار، فيما يفكرون؟ كيف يرون سكان خلف الأسوار؟ بالنسبة لهم، ليسوا إلا أتباع السلطة وناهبو خيرات البلد، أصحاب جوازات السفر الخاصة أو مزدوجة الجنسية، الذين يعيشون بجانب المطار ليسهل عليهم الهرب. وسواء كانت رؤيتهم حقيقية أو نصف حقيقية أو مجرد فهم خاطئ، فالأسوار خلقت هذه الأجواء العدائية، حيث ثروات البلد تروح في بناء عاصمة جديدة لفئة محدودة، فيما تحتاج القاهرة التاريخية إلى نصف هذه الميزانية لإعادة رونقها والقضاء على عشوائياتها وتنظيف شوارعها. سكان القاهرة "القديمة" لا يفهمون مَن أصحاب الأرض التي تبيعها الدولة (الممثلة في السلطة العسكرية) لطبقة الأثرياء، فالأرض أرض المواطنين مع ذلك لا يملكونها، السلطة تفرض نفسها كمحتل، وأصحاب الأرض يعيشون بلا بيوت أو في بيوت مهددة بالسقوط في أي لحظة.

     لا يمكن قراءة العمارة في القاهرة الجديدة، إذن، على ضوء أناقتها باعتبارها نقطة لصالح النظام، إنما نقطة تؤخذ عليه، لأن المعمار هنا ليس معمارًا عموميًا يفيد منه المواطن، إنما صارت الدولة شركة استثمارية، وصار المواطن مجرد زبون.

     في هذا التحول ثمة أدب جديد سيظهر، سيكون أدب الكومباوند، سيختلف بالتأكيد عن أدب التسعينيات العشوائي، وسيختلف عن أدب أول الألفية الثوري أو التجريبي، وربما يكون سؤاله الأكبر هو سؤال العزلة، هذه اللعنة التي فرضتها عليهم الأسوار والبوابات والحرس. 

الأحد، 6 ديسمبر 2020

فيلم "المؤلف": الخيال يكتب الواقع

    هل يمكن أن تخلق ورش الكتابة كاتبًا؟ السؤال الذي تطرحه صفحات الثقافة بالجرائد، والذي يدور في الغرف المغلقة للكُتّاب المتحققين، التقطه الروائي الإسباني الشهير خابيير ثيركاس ليعالجه في روايته "الموبايل"، ليطرح سؤالًا حول الكاتب المأزوم، أو بالأدق الطامح إلى أن يكون كاتبًا. لكن السؤال لم يتوقف عند الرواية، إذ التقطه المخرج مانويل مارتين كوينكا في فيلمه El autor  "المؤلف" (الذي تُرجم للإنجليزية بعنوان The motive)  ليصنع فيلمًا لافتًا، استطاع من خلاله أن يجسّد مأساة كاتب بلا خيال، وتزييف عالم ورش الكتابة، وأن يُنطِق شخصياته، سواء المدرّب في الورشة أو من يتطلع للكتابة، بعبارات شديدة الدلالة وبأسئلة تخرج من قلب الكتابة ذاتها، حول الواقع والفن والمسافة بينهما، حول البحث عن الصوت الخاص، حول كيف يمكن، أو لا، أن يستغل الفن الأشخاص العاديين ليصنع منهم أبطالًا. بشكل ما، كانت هذه طريقة المخرج نفسه في خلق فيلمه، إذ اختار محاميًا يعمل في مكتب كاتب عدل، ومدرّبًا لم يحقق نجاحًا في عالم الكتابة، وممثلة كاتبة كل مجدها أنها صارت أفضل ممثلة في مدينتها عبر علاقة مع مخرج يمنح هذه الجوائز، وهي نفسها كاتبة لكتاب بست سيلر حقق مبيعات غير أنه لم يبلغ القيمة. أما بقية الشخصيات الفرعية فهم أشخاص عاديون نالهم ما نالهم من الإحباط: سيدة كبيرة هي مغنية محبطة تتفرغ لرئاسة اتحاد ملاك العمارة، وعسكري سابق، وزوجان من المهاجرين المكسيكان يعانيان ما يعانيه أي مهاجر في وسط الأزمة الاقتصادية.

     بهذه المروحة من الشخصيات القليلة، التي تقوم بأدوار ثانوية بجوار البطل نفسه، صنع المخرج فيلمه. وبهذه الشخصيات القليلة والمتنوعة، صنع البطل (المؤلف) شخصيات روايته الأولى التي أصر القدر/المصير/ الحياة، أن تضع نهايتها. نحن أمام فيلم يتناول ورش الكتابة ليسخر منها، ويتناول أزمة "من يريد أن يخلق من نفسه كاتبًا" ليسخر منه، من دون أن يصرح بذلك على الإطلاق، لكنه يحمله حتى النهاية المنتظرة. إنه فيلم يعالج الأوهام، أوهام الفن، ليضع حدًا فاصلًا بين أن تكون محبًا للكتابة وأن تكون كاتبًا بالفعل. وفي الوقت الذي يطلق فيه أحكامه حول كيف يمكن أن تكون كاتبًا، يقوّض بنفس الذريعة هذه الطرق.

     ينطلق الفيلم من مشهد مجازي، رغم إن الفيلم يعادي المجاز وينتصر للواقعية تماهيًا مع مضمونه، حيث البطاريق كلها تسير في طريق واحد، فيما يخرج بطريق منفردًا ويتوجه صوب الجبل. إنه الكاتب الذي يخرج عن القطيع، وهي أولى صفات الكاتب لكي يكون كاتبًا. بهذه البداية، التي جاءت في شاشة عرض داخل ورشة كتابة، تُسلَط الكاميرا على البطل الجالس في صالة العرض وهو متأثر تهرب دموعه. إشارة أولى لشغف البطل بالكتابة، شغف لن يعني بعد ذلك أنه يمتلك الموهبة، حتى لو سار وحيدًا مثل بطريق.


     ما الكتابة؟ كيف تخلق شخصيات؟ من أين تستلهم الأحداث؟ هذه أسئلة جوهرية داخل الورشة، يجيب عنها المدرّب بـ "الواقع"، الحدث يجب أن يكون واقعيًا، الشخصيات من لحم ودم، تصوير الواقع الاجتماعي هو الرواية، لا مجال، إذن، بالنسبة للمدرّب، للتأليف أو التخيل، الكاتب بالنسبة له مجرد حكّاء للواقع، مجرد ناسخ، عين كاميرا متجولة، وليس عليه إلا أن يجد صوته الخاص ليعبّر عن هذا الواقع، لكن الصوت الخاص نفسه لا يجب أن يكون فارقًا، إنما أن يتتبع تسلسل الأحداث في نفس الواقع. لكن، لكي يجد الكاتب صوته الخاص ككاتب، يجب أن يعرف لماذا يحدث الحدث ولماذا الآن، وبنفس منطق المدرّب يطوّر المخرج الحدث: خيانة زوجية ستدفع البطل لحكاية الواقع، وبانتقاله لبيت جديد يقرر أن يكون سكان البناية هم أبطال روايته.

     تنطلق رواية الكاتب، إذن، من بناية سكنية تقع في مدينة إشبيلية، يسكنها أشخاص متنافرون: العسكري السابق يعاني الوحدة بعد موت صديقه الذي كان يرافقه لعب الشطرنج، والمطربة العجوز المحبطة وحيدة بعد أن هجرها زوجها، والمهاجران المكسيكيان يعانيان من تهديد الطرد من العمل. شخصيات مثالية لحكاية رواية واقعية اجتماعية: شخصيات محددة أحادية الجانب، لا يشغلها شيء أبعد من اللحظة. أما زمان الحدث فهو "الآن". وفي هذه التركيبة يجد المبرر الفني لحكايته. من هنا تبدأ "رواية" البطل لتندمج في "فيلم" المخرج، هنا يعمل الميتافيكشن السينمائي لتختلط الحكايتان. التسجيل المباشر للواقع، التسجيل بمعناه الحقيقي بمعنى فتح الموبايل ووضعه على نافذة المطبخ لالتقاط حوارات العائلة المكسيكية، كان وسيلة "الروائي" للكتابة" يضاف إليها وسيلة الاطلاع على حكايات السكان عبر رئيسة اتحاد الملاك أثناء بناء علاقة حميمية. الواقع المُشاهَد، ببساطة، يتحول إلى واقع مكتوب، من دون أن يمر بمجمرة الفن، والمباشرة هي سلاح "الروائي" لينجز عمله الذي خطط أن يكون "واقعية اجتماعية". أما المرجعية الروائية فهي همينجواي وكاميلو خوسيه ثيلا. وطريقة استدعاء الإلهام هي وضع الخصيتين على المنضدة، بحسب نصيحة المدرّب اتباعًا للكاتب الأميركي. بهذه البانوراما، يسير الفيلم في طريق "الباروي" أو المحاكاة الساخرة، فيما تسير الرواية في طريقها الجاد. صراع بين مخرج الفيلم وكاتب الرواية المنتظرة، سخرية مبطنة تجسّد ألم استدعاء الكتابة، ألم استخراج ماء من صحراء. "أنت لست كاتبًا"، عبارة تقولها زوجة الكاتب يمكن أن تلخص مأساته، وزيف أن تخلق كاتبًا من شخص بلا خيال ولا موهبة.


      الشخصيات المأزومة في الفيلم/الرواية تتجه نحو مصائر محتومة: الزوجان المكسيكيان يساقان إلى قتل العسكري السابق وسرقته، ورئيسة اتحاد الملاك تعود إلى عزلتها بعد هجر المؤلف لها، والروائي إلى السجن بعد اتهامه، بالباطل، أنه قاتل العسكري. لقد تحققت روايته في الواقع، هو من خطط لكل ذلك ليحرّك الشخصيات في البناية، ليصنع حدثًا، لكنه لم يتوقع النهاية، لأنه كاتب بلا خيال. بهذه النهاية، تقدم الحياة الحل إلى الروائي ليختم عمله الأول بخاتمة لم يكن يتوقعها، وإن كان يخطط لها، بمعنى أنه طورها في الواقع ودفعها حتى يستطيع أن ينسخها في روايته: الحدث يجب أن يحدث في الواقع ليكتبه، ليكون بذلك كاتبًا بحسب ما علّمه المدرب. بذلك قدّم له القدر خدمة لا تُنسى حين انتهت قصته بالسجن. نهاية غير تقليدية لكاتب تقليدي. الخيال هو الذي كتب الواقع.

    لقد تخلى المخرج عن عناصر هامة في الحياة "الواقعية" ليؤكد على تماهيه مع رواية المؤلف، فغاب الحلم أو أي إشارة له، غاب التأمل والاستبطان والتحليل النفسي، غابت أسئلة المؤلف عن الحياة أو طرحه لسؤال فلسفي، بل وغابت حتى الذكريات. لينصب الفيلم، كما الرواية، في "الواقع الظاهر"، هذه القشرة الأولى التي لا تحمل إلا تصورات سطحية عن الإنسان وعن الشخصيات الفنية. من هنا يأتي نجاح الفيلم وتميزه: المخرج يتبنى تصور المؤلف والمدرّب ليمد الخيط على آخره: الواقع فقير، غير صالح لصنع الفن إلا بعد عبوره بتصورات جمالية والتعمق فيها. نجح الفيلم أيضًا في موسيقاه وفي أغانيه، فجاءت الأغاني معبّرة عن حالة الوحدة التي عاشها البطل. بمعنى آخر، تميُّز الفيلم جاء من استخدام تقنيات فنية غير متحققة في الرواية لطبيعة كل فن. يمكن أن نقول إن المخرج صنع الفن الذي أراده في بداية الفيلم (قبل أن تبدأ الرواية) وفي نهايته (بعد نهاية الرواية) كأنه فتح قوسين، ومن خارجهما كان يسخر من مضمون فيلمه. ورش الكتابة التي قضى فيها البطل ثلاث سنوات لن تخلق كاتبًا، هي الرسالة ممررة عبر الأحداث.

السبت، 5 ديسمبر 2020

نتفليكس كمنتج ما بعد حداثي: نحو عزلة جديدة


 


     هل أنتجت ما بعد الحداثة، كمصطلح، الفردانية؟ أم أن خيبة أمل الفرد في الجماعة دفعت الإنسان إلى ما اتفقوا على تسميته بـ ما بعد الحداثة؟

     ربما تكون الإجابة الأسهل والأسرع أن الشيء يوجد ثم نعطي له اسمًا، وهي إجابة لا تخلو من منطق ووجاهة، غير أن تسمية الشيء، كما يقول الروائي الإسباني أندريس باربا، تمنح له مصيره. لقد بدأ الإنسان المعاصر يفقد ثقته في الحداثة لأنها لم تستطع مقاومة حربين عالميتين مات فيهما، بأيد بشرية، ملايين البشر، وتهدمت مئات المدن، وتشردت ملايين أخرى. ربما إنسان ما بين الحربين شعر بالفقد والضياع والهزيمة، ربما بدأ يتجه إلى مشروعه الفردي والكفر بالمشروع الجماعي، لكن هذا الفرد غدا أفرادًا كثيرين حين تأمل نفس الإنسان خرائب الحرب الثانية. لم يكن محض صدفة أن يظهر مصطلح ما بعد الحداثة بعد هذا التوقيت، أن يستخدمه الناقد المصري الأميركي إيهاب حسن، وأن يكرس له ليوتار، وأن تقوم الفلسفة التفكيكية لدى جاك دريدا على أفكاره، وأن يعيد ميشيل فوكو سؤال التاريخ والشك من خلاله، وأن يكتسح تيار الواقعية السحرية اللاتيني أوروبا كأحد مظاهر ما بعد الحداثة الأدبية. إنه مخاض عالم جديد، يعادي السرديات الكبرى ليعود إلى التفاصيل الصغيرة، ليعيد بناء العالم الكبير من خلال أزمة الفرد كفرد وليس أزمة الفرد كأحد أفراد جماعة. وفي الوقت الذي تشكّلت فيه هذه المفاهيم، جاء المصطلح ليمنحها البعد الفلسفي، ليتمكن الإنسان من تعريف نفسه بأنه "ما بعد حداثي"، وهي لا تعادل الإنسان المتطور، بالطبع، إنما تعادل، حتى نستطيع تصور المصطلح، الإنسان المهزوم في عالم شره، الإنسان الذي تعرّف على هشاشته كإنسان وليس كإله، الإنسان المتشظي وليس بوسعه أن يجمع ذاته. وإذا كان هذا الوصف يناسب الشخصية الروائية أو البطل السينمائي، فإن ما بعد حداثي على المستوى الفكري هو المفكر الذي لا يركن للثابت إنما يفككه، والمؤرخ الذي لا يركن للتاريخ إنما للتأريخ، حيث الوثائق والأحداث التاريخية ليست دليلًا على الحدث، إنما قد تكون دليلًا على حدوث عكسه. من هنا كان سؤال قراءة التاريخ في عمق ما بعد الحداثة، وتطور البحث العلمي في هذا الاتجاه عززه ميشيل فوكو.


     هذا التطور على المستوى الفكري وازاه تطور على المستوى التكنولوجي، خطف التلفزيون أولًا الفرد، ثم كان للسينما تأثيرها، مع هذا اتسعت رقعة القراءة، وكان التوسع في استخدام الإنترنت إحدى أهم الوسائل التي دفعت الفرد للانكماش في الربع قرن الأخير على الأقل. تلازمت مفاهيم الفردانية مع ما بعد الحداثة، حتى أنه أمكن تكوين صورة ذهنية عن الفرد "المعاصر" "الما بعد حداثي" باعتباره كائنًا منفردًا، وحيدًا، إنه منتج طبيعي للرأسمالية، ليس فحسب في تأثيرها الاقتصادي، بل في صداها الاجتماعي، حيث المجتمع لا يتكوّن من مجموعة أفراد، إنما فرد وفرد وفرد يكوّنون مجتمعًا، إنهم مجموعة جزر منعزلة لا يربط بينهم إلا النطاق الجغرافي.

     هذا المفهوم للانعزال، للتكوير حول الذات، لمحاولة النجاة الفردية، لم تكن خاصة بالعالم الغربي وحده، بل إن صداها كان أقوى في العالم العربي، خاصةً مع الفشل المتكرر في تحقيق نجاح سياسي يمنح للفرد الحرية الكاملة الكفيلة لتحقيق رضاه عن ذاته وشعوره بأنه فرد يساهم في بناء الجماعة. ربما هذا ما يفسر تكوين الجماعات الإسلامية من وجهة نظر أنثروبولوجية، إذ لا يشترط أن يكون الدافع للانضمام دينيًا، إنما اجتماعيًا، الشعور بالأساس بالانتماء لمجموعة من الناس تحت لافتة تعرّف هويتهم. إنهم أفراد شعروا بالوحدة والغربة في عالم ليس بوسعهم أن يفهموه ولا أن يجدوا له مدخلًا، فمنحتهم الجماعة هذا الانتماء. لا يختلف هذا الانتماء عن الانضمام لحزب سياسي، ولا لـ "ألتراس" فريق كرة قدم، بل ولا حتى تكوين اتحاد ملّاك بعمارة سكنية. لكن سريعًا ما تؤدي الجماعة إلى إحباط الفرد عاجلًا أم آجلًا، لكن هذا موضوع آخر.

     وفي العالم العربي كان المناسب، منذ فترة ما بعد الاستقلال، هو طرح سؤال الهوية، أو ضياع الهوية. وهو سؤال يتردد كثيرًا عقب ثورات الربيع العربي، ويتجلى في الأعمال الأدبية بقوة. ولعل لحظة الثورات هي لحظة السؤال الجماعي الوحيدة منذ هزيمة 67، وخاصةً أن فترة التسعينيات كانت فترة الإحباط الكبرى من المشروع الجماعي، ويرجع ذلك، كسبب رئيسي، إلى حرب الخليج التي كانت التجسيد لوهن القومية العربية. وهو ما قابله في الأدب العربي سقوط السرديات الكبرى وبزوغ سؤال الفرد وظهور أدب الجسد، والحساسية الجديدة بمصطلح إدوارد الخراط. ووازاه في السينما ظهور موجة الأفلام الكوميدية التي امتدت حتى اللحظة.


     مع ذلك، نحن الآن أمام لحظة أخرى أكثر تعقيدًا فيما يخص الفردانية بمعناها الانعزالي. يمكن رصدها منذ 2007 تقريبًا، مع انطلاق فيسبوك كوسيلة تواصل اجتماعية باتت مع الوقت الوسيلة الوحيدة، بديلة الواقع، أو كما يسميها أحد الناقد والمفكر بيثنتي لويس مورا "الواقع الممتد". وعلى عكس اسمها، كانت وسائل التواصل الاجتماعي دلالة على الانعزال. إنها المسافات الكبيرة التي يضعها الفرد بينه وبين الآخرين، ليكون التعبير عن الذات والحكي من وراء شاشة تعجز عن خلق تواصل حقيقي، مع إيهام أنها تحقق "التواصل". هذا التيار الجارف نحو الانعزال عززه، مؤخرًا، ظهور "نتفليكس". بات من الممكن أن تحقق كل شيء وأنت بالبيت، بات من الممكن أن تستغنى عن العالم الخارجي وأن تعيش في قبوك، أن تعيش كفرد لا علاقة له بالمجتمع. لقد استطاع "نتفليكس" في فترة قليلة أن يسحب ملايين المشاهدين، وأن تتراجع التجمعات الشبابية أو العائلية لمشاهدة السينما، وأن يتجمّعوا كأسرة بالبيت. قدّمت نتفليكس مجموعة من الأفلام الهامة منخفضة التكلفة، وسلسلة مسلسلات جذابة، وأرفقت بكل ذلك ترجمة للعديد من اللغات. التكنولوجيا الحديثة، نتيجة طبيعية للرأسمالية، تسعى إلى ملء كل فراغات الإنسان المعاصر، وتدعوه إلى "الحياة الجالسة"، إلى الراحة الممتلئة بكل ما يحتاج إليه. يشكّل نتفليكس، كبديل للتلفزيون وللسينما، ذائقة جديدة، وإنسانًا جديدًا يناسب العصر، وباشتراك شهري رخيص مقارنة بأسعار السينما، وبتخليه عن الإعلانات التي تملأ التلفزيون، خاصة التلفزيونات العربية، تخلق المنصة السينمائية والدرامية أسطورتها، أسطورة ستبقى لزمن طويل، لأنها أدركت ما يريده الإنسان الحديث في العالم.


     وسائل التواصل الاجتماعية، خاصة فيسبوك، ونتفليكس كمنصة سينمائية، ليست فقط منتجات ما بعد الحداثة، بل منتجات قادرة على تعزيز وتقوية ما بعد الحداثة، ولا يمكن قراءتها إلا في سياق التطور الاجتماعي لهذا التيار، وفي ظل الفشل المتراكم للمشروعات الجماعية. وإذا كان انطلاق ما بعد الحداثة شديد الصلة باستقلال الفرد، وعمومية الأذواق، ونجاح جميع النماذج، وغياب المعايير الفنية والأدبية، ما يعني قبول الجميع وكل شيء، فإن التطور الطبيعي لذلك أن يأخذ كل فرد معاصر ما يناسبه وينأى به بعيدًا، دون أي محاولة لتبادل القناعات أو النقاشات حول المنتج، مع انتصار لفكرة المتعة الشخصية كمعيار للفن.

     نجاح نتفليكس في استقطاب الملايين هو في الحقيقة نجاح للفردانية والانعزال، نجاح للقدرة على التعبير عن الإنسان المعاصر. ووسيلة ذكية للهروب، الهروب من المشروع الجماعي والتخلي عن أحلام الجماعات.        

الجمعة، 4 ديسمبر 2020

فيلم "البار": السلطة كإله خفي شرير

 

     ماذا تفعل السلطة في معارضيها في الدول الديمقراطية؟ وكيف تداري على تعدياتها؟ سؤالان يؤدي الأول منهما إلى الآخر، والإجابة عنهما هي الحكاية الأخرى، المختبئة، في فيلم "البار" للمخرج الإسباني إليكس دي لا إجليسيا.

     ينطلق الفيلم من مشاهد سريعة تسلط كاميرتها على الأبطال وهم متوجهون إلى مثواهم الأخير: البار، في صباح شتوي، ليشربوا القهوة أو يتناولوا فطورهم. الفتاة المسرعة إلى موعد غرامي، المتسول، عامل النظافة، الموظف، سيدة المراهنات، الشرطي السابق (الذي لا يزال يحمل مسدسًا ويرى العالم من منظور الجهاز الأمني)، والرجل الأنيق (الذي يبدو سياسيًا، ومن عنده تنطلق الحبكة) والشاب الذي يعمل في الدعاية والإعلان (ويضع سماعة في أذنه لينفصل عن المحيط)، كلهم يصبون، بالتعاقب، في حانة بوسط العاصمة مدريد. المجتمع القديم والمجتمع الحديث يتجاوران، مزيج من مجتمع فرانكوي وآخر ديمقراطي، مزيج من تنوع طبقي وثقافي. صباح كأي صباح، وحوارات معتادة بين رواد المكان كأي حوارات، لكن العادي سيقطعه الحدث/ الكارثة، حين يخرج من يبدو الأعلى اجتماعيًا (السياسي) فتصيبه طلقة في رأسه. حينها يحل الصمت ويتحول الشارع إلى صحراء، بلا نفس واحدة، فيما يتحول رواد البار إلى مساجين خلف الباب الزجاجي. طلقة واحدة خرجت من بندقية مجهولة (بندقية قنّاص من أحد الأسطح كما يبدو) ستحول السلام إلى رعب، ومعه يتجول الشارع من شارع مديني متحضر إلى أرض بدائية، أرض بدائية لا يمثل تحولها إلى صحراء إلا مرحلة أولى، هدوء ما قبل العاصفة. الرصاصة ستزيل القشرة عن حقيقة أخرى، وحشية، مختبئة وراء الشوارع الأنيقة والبنايات الملفتة.

مجتمع قديم/ جديد

     الغرباء، الذين أدركوا في لحظة واحدة أنهم يجب أن يصيروا يدًا واحدة في مواجهة الكارثة، سيتلبسهم الخوف حتى من تقديم إسعافات أولية للقتيل، وبتخليه عن الخوف، يخرج عامل النظافة ليقوم بالمهمة، عامل النظافة الذي اعتاد التعامل مع الفضلات البشرية يغدو الآن الوحيد القادر على التعامل مع جثة. إنه اختيار ذكي من مخرج اختار لفيلمه في مجمله أن يتكئ على المجاز، وأن يتوسل العلامة ليقدم تصورًا سينمائيًا عن المجتمع الجديد. لا فتى الإعلانات ولا الشرطي السابق من يقدِم على خطوة مواجهة الرعب، لا السيدة التي تقضي يومها في المراهنات ولا الفتاة الجميلة التي خرجت لموعد غرامي. بل عامل النظافة الذي يمثل المجتمع الكلاسيكي. وربما يمثّل كذلك طيبة الجهل. الحدث الذي تنطلق منه الحبكة هو مجرد اختبار أول لكوارث أخرى متلاحقة، سيفشل فيها الجميع في تخطي ذواتهم وأنانيتهم.

    خلف زجاج البار يتمثل المجتمع المتناقض، بالدلالات الثقافية على هذا التناقض: البار كمجتمع صغير يمكن أن يلخص، من دون إخلال، إسبانيا اليوم. وكما توقع سكان البار، طلقة أخرى سددت إلى رأس عامل النظافة، ليرقد بدل الجثة جثتان، أولى مستهدفة بالأساس، وثانية وجدت نفسها هناك بمحض صدفة أو اختيار، لكن من دون تورط في أي قضية. هنا تساوى القتيلان في الموت، ولم تفرق الرصاصة "المجهولة" بينهما. وهنا تجلى الجبن في شخصيات اختارت الاختباء وراء حاجز زجاجي، من دون أن يدروا أن مصير آخرهم سيكون مثل مصير أولهم.

 

الكارثة كنقطة انطلاق


      بداية من حادثة الاغتيال (التي لا نعرف سببها إلا ضمنيًا، أو بالتأويل، فالقاتل الخفي لم يظهر صراحةً)، تنطلق حبكة الفيلم الطويل في سلسلة حادة من السخرية. من الكارثة يبدأ كل شيء. وليس أمام الأبطال إلا السخرية من واقعهم، فيتوسل المخرج السخرية ليقدم تصوره عن الإنسان المعاصر. ينشأ الحب في وسط الخراب بين فتى الإعلانات وفتاة الموعد الغرامي، وتتولد الحكايات من كل منهم. الحكاية في مواجهة المجهول، في مواجهة الموت، هي ما تسليهم. كل منهم يعود إلى ماضيه وذكرياته، وكل ذلك يحدث مع أمل في النجاة.

     هنا تختفي الجثتان بيد خفية، ويُغسل الدم كأن شيئًا لم يحدث. وتأتي عربات الشرطة، لا لتنقذ المحبوسين داخل البار (والمحبوسين في بيوتهم والبارات الأخرى والقبض على القاتل، كما يمكن أن يتوقع الأبطال) إنما ليحرقوا إطارات سيارات بشكل كثيف، فينقل التلفزيون (المتواطئ) خبرًا عن حريق هائل في وسط العاصمة مدريد من دون معرفة إن كان هناك ضحايا. بذلك تتضح تفاصيل المؤامرة. الشرطة ليست مصدرًا للأمن، بل سببًا في محاربته، ومصير سكان البار بات واضحًا: مثوى نهائي أو محاولة غير مجدية للهرب من دون معرفة كيف. هكذا يسيطر الرعب والسخرية السوداء، وهكذا يتحول العالم، من دون سبب واضح (أو هذا ما يسعى إليه الفيلم)، إلى عالم أوكاليبتي يشبه قليلًا عالم تارانتينو، كما يتشابه مع عوالم المخرج نفسه في أفلام سابقة مثل "يوم الحيوان" و"موتى من الضحك".

    ولأن القدر الخفي هو من يدير اللعبة، لم يجد رواد البار إلا الحكي عن أنفسهم، ليتضح، في الأخير، أنهم مجموعة من اليائسين على اختلاف وظائفهم وطبقتهم وأساليب حياتهم. ولتكتمل مأساتهم، يموت أحدهم في الحمّام من جرعة زائدة (لم يكن ضمن المجموعة، كان زائرًا عابرًا جاء ليستخدم الحمّام فحسب)، وتأمر صاحبة البار كل من لمس الميت بأن ينزل إلى البدروم (المخزن الذي يؤدي إلى نفق الصرف الصحي)، ثم ينطلق وسواس المرض والعدوى، وخاصة في مشاهد شديدة المأساوية بمجموعة من الناس يحيطون بالجثة ويخشون المصير المحتوم. ستتكفل الشرطة بحرق البار، بمن تبقى بالأعلى، فيما ينجو ساكنو البدروم مؤقتًا، حتى تنشب بينهم الصراعات على لقاح مضاد للعدوى، وتنتهي مأساتهم بقتل بعضهم بعضًا، فلا ينجو، بعد صراع تحت الأرض وفي أنفاق الصرف الصحي، إلا البطلة التي خرجت من البيت في الأساس من أجل موعد غرامي، تنجو بملابس داخلية ممزقة، غير صالحة لأي موعد، خارج المنطقة التي طوّقتها الشرطة بسبب الحريق المفتعل، لتكون الوحيدة التي تعرف الحقيقة.

 

السينما كخشبة مسرح

     تدور أحداث الفيلم في 24 ساعة، رأى فيها الأبطال تجربة حياتية رهيبة يمكن أن تلخص الجشع الإنساني وفطرة القتل، وهي الحكاية الأولى السطحية التي سردها الفيلم بقسوة، وبمشاعر تتراوح بين الحب والكراهية والعدوانية، والكثير من الوساوس وتبادل الشكوك والارتيابات. خلال هذه الساعات، استغل المخرج المكان الضيق كخشبة مسرح، فكانت المشاهد الداخلية هي الغالبة على الفيلم. لقد انتهى الخارج سريعًا، انتهى الفيلم الذي يتجول بالخارج، ليغدو الفيلم مسرحية تتلاحق فيها المشاهد والفصول في فضاء محدود، علامة أخرى تتكامل مع يأس الأبطال في حيواتهم، وتجسيد نفس اليأس في الجدران الأربعة. علامة أخرى على الإغلاق، وبالتالي فقدان حرية الخروج للشارع. الداخل للمواطن والخارج للسلطة، إنه الشكل الأول والبدائي الذي يحكم هذه العلاقة. أما المَخرَج فليس إلا نفق الصرف الصحي، حيث يغرق المجتمع نفسه، وحيث يتصارع الأبطال/ اللاأبطال في الوصول إليه من أجل نجاة سيتضح مع تطور الفيلم أنها نجاة مزيفة، وموت محتوم.

     عن قصد، يتجنب الفيلم أي إشارة إلى السلطة (الحكاية الأخرى) لتتركز الحوارات في الأزمة لا سببها، مع تقاطعات مع "الماضي" و"الذكرى" و"البؤس الفردي"، تقاطعات لا ترجع فيها الكاميرا للوراء، إنما تكتفي بالحكي كوسيلة للترابط وبدء علاقات. ورغم أن مشاهد الشرطة قليلة ومحدودة، وهي شرطة مقنّعة، بلا وجه، تستخدم عربات مصفحة وترفع بنادق، إلا أن المُشاهِد سريعًا ما يدرك سؤال الفيلم وطرحه. السلطة تصفي معارضيها وتفتعل الحرائق، ربما تكون هذه هي الإجابة المبسطة، لكن مَن هم داخل البار، بحسب ما يتبدى من رؤية دي لا إجليسيا، يستحقون عقابهم. ليس لأنهم أجرموا بالمعنى الأخلاقي، إنما لأن هذا هو المصير الطبيعي للبشرية: الصراع من أجل الحياة، ثم الموت في وسط المعركة. هم هنا يصفّون أنفسهم بنفس طريقة تصفية الشرطة لمعارضي السلطة. إنها نفس اللعبة الممتدة حول البقاء للأقوى والأذكى، فيما يخر الضعفاء والحمقى ميتين. ليتحقق ذلك، يعمل الإعلام كذراع للسلطة، فلا ينقل التلفزيون إلا من طائرات هليوكوبتر سماءَ مدريد المغطاة بالدخان، ويظهر الجشع الإنساني فيأكل كل منهم الآخر ليعيش. نحن هنا من جديد أمام تيمة "الشر"، والصراع في محله الطبيعي: البالوعة. من هذا المنظور يبدو الفيلم كلعبة روسية، داخل كل منها صورة شبيهة، وهكذا إلى ما لا نهاية. سلطة تقتل سياسيًا بقلب جامد وتختلق حريقًا ضخمًا لتحافظ على استمرارها وسيطرتها على الشارع، وشرطي سابق يستغل مسدسه لينفذ أوامر صاحبة البار بإرسال الآخرين إلى البدروم مع الجثة، حتى يموتوا هناك بمفردهم من العدوى، وصراع آخر في البدروم على من يتناول اللقاح المضاد للعدوى، ومن يتبقى منهم يواصل الصراع في نفق الصرف الصحي حتى تتم تصفيتهم جميعًا، باستثناء فتاة الموعد الغرامي. في كل مرة يتطور الفيلم إلى الداخل، إلى أعماق الأرض أكثر: شارع- بار- بدروم- نفق صرف صحي، وفي كل مرة يقل عدد الشخصيات بعد التخلص من بعضهم. هي، إذن، لعبة روسية، مكررة داخل نفسها، تحمل الأكثر عمقًا فيها ما تحمله الأولى من ملامح.

 

الصراع التحتي/العلوي  


     في مشاهد سريعة وشديدة الثراء، تنتقل الكاميرا من "الصراع التحتي"، حيث يتقاتل عارفو الحقيقة، إلى "الصراع العلوي" حيث حيرة من يجهلون ما حدث، ويكررون ما بثته وسائل الإعلام من حريق مجهول السبب.  تطوق الشرطة المكان الذي يحيط به سكان العاصمة وهم لا يعرفون ما جرى، وبالطبع لن يعرفوه أبدًا. نحن، إذن، أمام ثنائية المعرفة/البالوعة، الجهل/ الشارع. والعودة إلى الشارع بمعرفة يمكن تلخيصها في المشهد الختامي: بلانكا سواريث (البطلة) تسير كأي مشردة، عاجزة عن النطق بما رأت، ربما فاقدة لذاكرتها السابقة على اليوم الأخير. نهاية تراجيدية رأى بعض النقاد، مثل كارلوس بويرو، أنها محبطة.

    على أي حال، نحن أمام سيناريو متماسك، سيناريو لا يبحث في المعطيات (المعروفة) إنما في النتائج المترتبة، من خلال فيلم تشويقي قادر على لضم المشاهد وتطويرها في خيط لا ينتهي بنهاية الفيلم، وصراعات داخلية استطاعت أن تتجاهل الخارج، فلم يكن الخارج إلا خلفية للأحداث، وأمام رؤية تنقد السلطة وتنقد الديمقراطية الغربية، التي لا تريد أن تلوث يدها بالدم مباشرةً فترتدي القفازات فحسب.

    نحن أمام رعب من نوع خاص، حيث الجانب الذي عليه أن ينشر الأمن هو نفسه من يثأر من المواطنين، وحيث المجتمع المتمدن ليس إلا غطاءً على عفن إنساني خطير، بوسعه أن يقتل دون تفكير ليحقق لنفسه البقاء. فكرة تلتقي مع فيلم "العمى" للمخرج فرناندو ميريليس، المبني على رواية بنفس الاسم لجوزيه ساراماجو، حيث المكان الضيق المحدد مثير للغرائز الإنسانية البدائية، وحيث الصراع من أجل البقاء هو الاحتمالية الوحيدة.

أخيرًا، ففي وسط الاندماج في الحدث، سيتذكر المشاهد أن ما أدى بالشخصيات لهذا المصير هو السلطة، وهذا، بالنسبة لصناع الفيلم، إشارة كافية.

فرانثيسكو برينيس: الشعر هو قول أشياء مؤلمة


     أعلنت جائزة ثيربانتس المرموقة، نوبل الأدب الإسباني، فوز الشاعر فرانثيسكو برينيس لعام 2020 عن مسيرته الإبداعية التي استمرت على مدار 60 عامًا، أضاف فيها للشعرية الإسبانية، وانتقل فيها من الحسية للميتافيزيقا. تبلغ قيمة الجائزة 125 ألف يورو، وتمنح عامًا لكاتب من إسبانيا وعامًا لكاتب من أميركا اللاتينية، لكنها هذا العام منحت لكاتب إسباني، وشاعر، لعامين متتاليين.

     ينتمي برينيس إلى جيل الخمسينات الشعري، وهو الجيل الذي ولد في زمن الاضطراب السياسي وعاش طفولته في الحرب الأهلية (1936-1939)، ثم بدأ الكتابة والنشر تحت رقابة الديكتاتورية الفرانكوية. نال الشاعر البالينثي التقدير منذ ديوانه الأول، وفاز بالعديد من الجوائز الهامة مثل الجائزة الوطنية للأدب في سن مبكرة، لذلك لم تكن مفاجأة أن تختاره لجنة جائزة ثيربانتس لجائزتها، بل إن الكثيرين رأوا أنها تأخرت.

     هنا حوار مع برينيس يتحدث فيه عن الشعر، وحين يفعل ذلك يتحدث عن الحياة، لأن الحياة والشعر مفهوم واحد بالنسبة إليه.

·        بدأت مسيرتك الشعرية بديوان عن الشيخوخة، "الجمرات" (1960)، ويبدو فيه أن الزمن لا يمر. كيف استطعت أن ترتدي ثوب الشيخ وأنت في الثامنة والعشرين، حين نُشر الديوان؟

-       في الثامنة والعشرين نُشر الديوان، لكني كتبته قبلها بعام، بين الصيف والخريف. ينبغي أن أقول إنه ديواني التنبؤي الوحيد: إذا كان الشاعر عرافًا، فقد تمتعت بهذه القدرة في كتابي الأول فحسب. البطل الشعري، خاصة في الجزء الأول والأساسي بالديوان، هو رجل عجوز، يعيش وحيدًا في نفس البيت الذي أعيش فيه، منتظرًا النهاية. وهذا ما تحقق بالفعل: وصلت بمفردي لهذه القرية، لهذا البيت، وهو نفس بيت الديوان، وفيه أنتظر النهاية. بهذا المعنى هو كتاب تنبؤي، رغم أنه، للمفارقة، كتابي الأول المكتوب في السادسة أو السابعة والعشرين.

·        هل كنت تشعر نفسيًا بأنك عجوز؟

-       بعيدًا عن السن، ما كنت أراه هو مصير العزلة ومصير كنت أحتاج إلى التعبير عنه شعريًا لتحقيقه، رغم أني لم أقل ذلك في هذا الديوان أو أي ديوان آخر. لأن الشعر هو كشف معنى الوجود الإنساني، شيء نقف أمامه عميانًا. كل شيء، على الأقل الأشياء المهمة، محض لغز. وهذا اللغز يجبرني على طرح أسئلة أساسية تأتي وتذهب وتعود بشكل موسوس تقريبًا. ولأن هذه الأسئلة، بطريقة أو بأخرى، لم تهجرني، لا أعتقد أن ثمة تغييرًا حدث في شخصيتي.

·        لماذا كتبت كل قصائد هذا الديوان بصوت الضمير الثالث؟ هل هي مسألة خجل؟

-       أظن أننا، في نهاية المطاف، نحكي عن الذات: من منطقة الجسد ومن الروح التي ترافقه. الروح تعيش فيما يعيش الجسد؛ وحين يموت، تموت الروح كذلك. أؤمن بذلك من وجهة نظري، وهي وجهة لا تؤمن، ولست سعيدًا معها، لأن ما نختبره، في النهاية، هو هويتنا الذاتية، وهذا ما لا نتمنى أن نفقده أبدًا: الوعي بالهوية، الشيء الوحيد الذي نحتفظ به، ما دمنا على وجه الحياة. من ناحية أخرى، حتى وأنا أتكلم عن الذات، لم أعتبر قط أن ذاتي مختلفة عن ذات الآخر، إذ أن البشر متشابهون. السحري في الشعر أنه يجعلنا نقبل بشريتنا، ونقبل ما نحب أن نكونه بدون أن نحصل عليه. وهكذا، عند قراءة الشعر، نقبل بحقيقتنا وحقيقة الآخر. هذه هي موضوعية الوجود أو جوهر ما هو إنساني. لذلك أعتقد أن "الأنا" لا ينبغي أن تبرز كما نفعل: الأهم هو "الأنت"، لأنك بالنسبة للآخر لست "الأنا" وإنما "الأنت". أظن أن الكتابة بصيغة "أنت" أو "هو" ابتعاد ع الوقوع في فخ الذات: ليس من أجل الإعلاء من شأنها، ولا الحط من شأنها، وإنما لمعرفتها كما تستحق. أعتقد أن الإنسان كائن مذهل، رغم أنه قد يكون عارًا. امكانياته شبه لا نهائية، بحيث يمكن أن يكون بطلًا أو جبانًا.

·        هل كان لك محاولات شعرية سابقة على ديوانك الأول؟

-       لي سوابق شعرية في الرابعة عشرة، وكانت سنوات تعلم. حينئذ لم يكن ممكنًا النشر في مجلات مثل الآن، وكنت حينها أرتاب فيما أكتب مثل الآن. لكن نعم كان لديّ رغبة في الكتابة، وهذا منحني سحر التقرب لمعرفة الشعر. كنت في الرابعة عشرة تلميذًا مراهقًا، وكنت أتمتع بخبرة الإجابة على الأسئلة بحسب ما درست. كنت أجيب عن أسئلة أعرفها بالقراءة، وبقدر ما أستطيع. لكني حينها كنت وسيطًا، وسيطًا بين القراءة وبين خبرتي الشخصية. على سبيل المثال، لو سألوني في الخريف أين قضيت الإجازة، أقول على الشاطئ ثم في الجبل بداية من سبتمبر. كنت أحلل من تجربتي ذاتها وأحاول أن أفسر لنفسي بأني أحب الشاطئ أو الجبل، حيث كنت وحيدًا، وأجيب بحسب هذا المنطق. لكن مع الشعر حدث شيء سحري لأن ما كنت أقوله لم أكن قد قرأته ولا جربته: كان يخرج من داخلي ولم أكن أعرفه إلا بكتابته. هذا ما كان يبدو لي، ولا يزال يبدو، سحريًا. أكتب الآن كما كنت في الرابعة عشرة، لذلك لم أكتب قصيدة معدة سلفًا في رأسي، وإنما عاطفة أحتاج إلى اكتشافها عبر الكتابة. يتدخل الحدس، وهو الذكاء وليس العقل: الذكاء القاتم حيث، عند الكتابة، يأتي ليصحح ويوافق بحسب التجربة التأملية. أشطب وأصحح في حدود ميلاد القصيدة وشكلها الأول، بمعنى أن التأمل ليس المكتشف وإنما المستعمِر: يأتي متأخرًا. خلال زمن طويل كنت أكتب القصيدة من البداية للنهاية، حتى جاءت لحظة محددة وبدأت أكتب القصيدة تاركًا مناطق أعرف أنها تحتاج إلى مراجعة لأنها في الكتابة الأولى بدت تقارير. الآن، في كتابي الأخير، أمامي ثلاث أو أربع قصائد للمراجعة. ليس لديّ حماس للمراجعة لكن أتمنى أن يتوافر لي لأنهي الكتاب.

·        أحيانًا، ربما من أجل القراء السذج، يُقال بإلحاح إن الذات الشاعرة، التي تتحدث في القصيدة شيء وأن الشاعر، المؤلف الحقيقي، شيء آخر. ألا تعتقد أن هذا الفصل الذي صنعه المنظرون والنقاد أدى إلى خلق صور شيزوفرينية للشاعر، مع أن الأصدق أن الشاعر شخص طبيعي في قصائده؟

-       أنا أعتقد أن الشاعر حين يكتب يرسم صورة شخصية: الدفتر مرآة يطل منها الشاعر كما يحدث في الأحلام، يرى أشخاصًا مجسدين، لكن في هذه اللحظة تظهر وجوه أخرى. في الشعر أيضًا نطل على الورق ونرى أنفسنا، لكننا بوجه آخر. في القصيدة تخرج منا أشياء لا نعرفها، وفي المقابل، ثمة أشياء نعرفها جدًا، هامة ومعروفة، لكنها لا تظهر في القصيدة. الشعر يسحب من العمق أشياءً يضعها على السطح، فيما يدفن أشياء أخرى.

·        كيف تعبّر عن الحميمية بهذه الدقة والكثافة مستخدمًا لغة طبيعية جدًا وعارية من كل زخرفة؟

-       أظن أن الشعر الجيد لم يكن قط حرفيًا، رغم أن الحرفية قد تظهر مثلًا في الشعر السردي. الشعر يختلف عن النثر في كثافته المركزة. الشعر نبع الإيحاء والصدى؛ من هنا تأتي صعوبة قراءته. مَن يقرأ الشعر مِن حرفيته لا يجد فيه شيئًا لافتًا، لأن الشعر ليس من أهدافه قول أشياء جديدة، إنما قول أشياء مؤلمة –مؤلمة بعمق أو ممتعة- بالنسبة لكل الناس. على سبيل المثال، الشعر العاطفي. كل الناس تقريبًا شعروا بالحب: ليس فقط الحب الجسدي وإنما غير الجسدي أيضًا. مع ذلك، حين يجربه فرد للمرة الأولى، لا تفيده تجارب الآخرين. وحين يعيد التجربة بتلك الكثافة سيتمكن من رؤية حجمه. في الشعر يحدث نفس الشيء: يتناول موضوعات معتادة عن الحياة والموت والحب والألم، لكنه يقول ذلك بطريقة تحرك مشاعر القارئ ويتعلم من ذلك، أو يعيش التجربة التي لم يعشها. لذلك لا أظن أن الشعر يجب أن يقول أشياءً جديدة ليحظى بالتقدير؛ والأكثر من ذلك أعتقد أن عالِمًا بنظرية جديدة يحتاج إلى النثر ليشرحها ويعبر عن نفسه فيها أكثر من استخدام الشعر، لأن ما يبحث عنه القارئ حينها ليس الشعر، ولو تقدم العلم في شكل شعري سيتعثر القارئ في فهمه، لأن الأشياء الموضوعية لا تهمه. هذا الاستعراض للعلم يحتاج إلى دقة ووضوح لا إلى صدى وتأملات. ما تحتاجه اللغة الشعرية هو السحر الكافي ليقول حرفيًا ما لا يقال، لكنه يفعل ذلك بالإيحاء بطريقته. ثمة قراءتان: الأولى حرفية والثانية عميقة، وهي تتحقق حين يتصل القارئ بالقصيدة ويصير هو منتجها. يحدث ذلك لأنه يبتعد عن الحرفية ليكون قارئًا وكاتبًا في نفس الوقت.   

 

------------

عن مجلة بوئسيا ديخيتال

منشور بمجلة الدوحة، عدد ديسمبر