الاثنين، 29 مايو 2017

قصة: جيم/ روبيرتو بولانيو




   منذ سنوات طويلة، كان لي صديق يُسمى جيم، لم أر أبدًا أمريكيًا شماليًا، منذ ذلك الحين، أكثر حزنًا منه. رأيت يائسين كثيرين. لكن حزناء، مثل جيم، أبدًا. ذات مرة رحل إلى بيرو، في رحلة كان يجب أن تستمر أكثر من ستة أشهر، لكن بعد فترة قليلة رأيته من جديد. فيما يكمن الشعر يا جيم؟ كان أطفال المكسيك الشحاذون يسألونه. وكان جيم يستمع إليهم وهو ينظر إلى السحب، ثم يتقيأ. في اللغة، في البلاغة، في البحث عن الحقيقة. في عيد الغطاس. في شعورك حين ترى العذراء. اعتدوا عليه في أمريكا الوسطى عدة مرات، وهو ما كان غريبًا بالنسبة لرجل من المارينز ومحارب قديم في فيتنام. كفى مشاجرات، كان يقول جيم. أنا الآن شاعر وأبحث عما هو غريب لأقوله بكلمات شائعة وعادية. هل تعتقد أن ثمة كلمات شائعة وعادية؟ نعم أنا أعتقد، كان يقول جيم. كانت زوجته شاعرة تشيكية تهدده، كل فترة، بالهجر. أطلعني على صورة لها. لم تكن جميلة بتفرد. كان وجهها يعبّر عن معاناة وتحت المعاناة غضب يطل. تخيلتها في شقة سان فرنثيسكو أو في بيت لوس أنجيليس، بنوافذ مغلقة وستائر مفتوحة، جالسة إلى المائدة، تأكل خبزًا وحساء أخضر. وحسبما رأيت، كان جيم يحب النساء السمراوات، نساء التاريخ السريات، كان يقول ذلك دون أن يشرحه بفضفضة. أنا على العكس كنت أحب البيضاوات. ذات مرة رأيته يشاهد الحاوي بشارع D.F. رأيته من ظهره ولم أحيه، لكنه كان جيم بكل وضوح. الشعر الأشعث، القميص الأبيض والوسخ، الظهر الأحدب كأنه لا يزال يحمل حقيبة. الرقبة الحمراء، رقبة تستحضر، بطريقة ما، صورة الإعدام غير القانوني في الحقل، حقل بالأبيض والأسود، بلا إعلانات ولا إضاءات محطات البنزين، حقل كما نتصور أو كما ينبغي أن يكون الحقل: بوادٍ بلا أمل في البقاء، بغرف من الحجارة أو مسيجة مثل تلك التي هربنا منها وتنتظر عودتنا. كان جيم يضع يديه في جيبيه، والحاوي يهز شعلته ويضحك بشكل هيستيري. كان وجهه المسوّد يقول إنه في الخامسة والثلاثين أو ربما الخامسة عشر. كان بلا قميص، وبجرح رأسي من سرته وحتى صدره. ومن حين لآخر كان يملأ فمه بسائل قابل للاشتعال ثم يبصق ثعبانًا طويلًا من النار. كانت الناس تشاهده، مقدرًة فنه وتواصل طريقها، ماعدا جيم الذي استمر على حافة الرصيف، ساكنًا، كأنه ينتظر من الحاوي شيئًا أكثر، كعلامة عاشرة بعد أن فك شفرة التاسعة الصارمة، أو كأنه اكتشف في الوجه القبيح وجه صديق قديم أو وجه أحد قتلاه السابقين. لبرهة طويلة نظرت إليه، وكنت حينها في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، وكنت أعتقد أنه رجل أبدي. لو كنت أعرف أنه ليس كذلك لأعطيته ظهري ولابتعدت عن هناك. بعد برهة تعبت من النظر لظهر جيم ولتجهمات الحاوي. الحقيقة أنني اقتربت وناديت عليه. بدا أن جيم لم يسمعني، وحين التفت لاحظت أن وجهه مبلل بالعرق. كان يبدو محمومًا ويصعب عليه التعرف عليّ: حياني بايماءة رأس ثم واصل النظر إلى الحاوي. وعندما  اقتربت منه رأيته يبكي. أغلب الظن أنه كان محمومًا كذلك. واكتشفت، بدهشة أقل من الدهشة التي أكتب بها، أن الحاوي كان يعمل من أجله حصريًا، كأن كل المشاهدين الآخرين بناصية D.F لا وجود لهم. كانت الشعلات توشك أحيانًا على الخبو كلما اقتربت على بعد متر منا. قلت له ماذا تريد، أن يحرقوك في الشارع؟ كانت مزحة حمقاء نطقتها بلا تفكير، لكن عرفت فجأة أن هذا بالتحديد ما كان يأمله جيم. مارس الحب، مسحورًا/ مارس الحب، مسحورًا، أعتقد أني أتذكر أنها عبارة في أغنية كانت موضة هذا العام في بعض أماكن السهرات. وكان يبدو أن جيم يمارس الحب مسحورًا. فتنه ساحر المكسيك والآن ينظر مباشرة إلى وجه أشباحه. هيا من هنا، قلت له. سألته أيضًا إن كان مخدرًا، إن كان يشعر بالتعب. قال لا بايماءة من رأسه. كان الحاوي ينظر إلينا. ثم اقترب منا بخدين منتفختين، مثل إيولو إله الريح. عرفت، في جزء من الثانية، أن ما سيقع علينا ليس بالتحديد ريح. هيا، قلت، وفجأة جذبته من حافة الرصيف الخطيرة. تُهنا في الشارع الهابط في طريق الاصلاحية، وبعد برهة افترقنا. جيم لم يفتح فمه طوال الوقت. ولم أره مرة أخرى أبداً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.