الجمعة، 11 ديسمبر 2020

عندما كنا عربًا: قراءة جديدة في تاريخ العرب في إسبانيا

 

     كيف تكوّنت صورة ذهنية مليئة بالمغالطات حول الإسلام في أوروبا؟ وكيف أثّرت هذه الصورة على النظر إلى التاريخ الأندلسي واعتباره فترة سيئة في تاريخ إسبانيا؟ من هذه الأسئلة ينطلق المستعرب والمؤرخ الإسباني إميليو جونثالث فيرّين في كتابه الذي أحدث صدى كبيرًا "عندما كنا عربًا"، الصادر حديثًا عن دار الموثارا الإسبانية.

     نقطة الانطلاق الأولى هي "الذاتية"، إذ يؤكد فيرّين منذ السطور الأولى أن كل عمل بحثي هو بالأساسي عمل ذاتي وليس عملًا موضوعيًا، ينطبق ذلك على عمله هذا كما ينطبق على كل الكتب والأبحاث الأخرى. من هنا يعلن انحيازه من اللحظة الأولى للثقافة الإسلامية، الثقافة التي عرفها من خلال معايشته لها في الدول العربية خاصةً المغرب، والقاهرة التي قضى بها سنوات لإنجاز أطروحة الدكتوراة. لكن انحياز فيرّين وذاتية العمل، الذي يضم جزءًا لا بأس به من سيرته كمستعرب، لا يعني أنه يتخلى عن فرض الافتراضيات والوصول للبراهين بحسب المنهجية الأكاديمية، بل يعني أنه من هذا الانحياز سيختار نماذج للأعمال التي تناولت بالسلب التاريخ الأندلسي لينقدها من داخل ذاتها، مفككًا إياها من ناحية، ومشيدًا رواية أخرى كانت معروفة ثم صارت متجاهلة لأسباب أيديولوجية، ليضيف إليها رؤية تاريخية أكثر رحابة وأكثر التصاقًا بواقع اليوم.

     يؤسس المؤلف في الفصل الأول للمنهج الذي يتخذه لتوضيح نظريته للإجابة عن هذين السؤالين: ثمة فارق واضح بين الإسلام كدين، الإسلام كثقافة، والمجتمعات الحديثة. الإسلام كدين هو النص القرآني، والثقافة الإسلامية هي المنتج الثقافي المبني من جراء التحام النص بالواقع والمجتمع، أما المجتمعات الإسلامية الحديثة فهي نتاج آخر ومختلف ساهمت عوامل كثيرة في تكوينه. يذهب فيرّين إلى أن المجتمعات الإسلامية الحديثة ليست انعكاسًا لمجتمع القرون الوسطى الإسلامي، ولا هي، بالطبع، أنموذج واقعي للنص القرآني، وبالتالي لا يمكن الحكم على مسلمي اليوم باعتبارهم "التمثيل" الواقعي للدين الإسلامي، لأن كل بلد إسلامي له خصائصه، ولأن كل فرد مسلم له شروط حياته المختلفة، ولأن التأويلات النصية تختلف من زمن لزمن ومن جماعة لجماعة. بهذه النقاط، يسعى فيرّين لإزالة اللافتة التي يرفعها الغرب عند النظر للمسلمين، سواء داخل المجتمع المسلم أو داخل أوروبا ذاتها، لينتقد عبر هذه الرؤية وسائل الإعلام التي لا تكف عن الربط بين الإسلام والإرهاب، والخلط بين قضايا الهجرة والدين الإسلامي، وتكوين رؤية سلبية حول حقبة الأندلس من خلال الممارسات اليومية لمهاجرين مسلمين أو قضايا سياسية عربية، ما يجعل المواطن ينظر إلى الطفل السوري اللاجئ لا باعتباره طفلًا لاجئًا، بل تمثيلًا لكل هذا الصراع الثقافي والسياسي القديم، إنه طفل مسلم في نهاية المطاف.

     لا يتجاهل فيرّين أداءات وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة اتجاه كل ما هو مسلم، بل يلتفت إلى قدرتها على خلق رأي عام وثقافة عامة تردد عباراتها الخاطئة، ليرصد الفارق الكبير بين كلمة "جهاد" في النص القرآني ككلمة تحث على الدفاع عن النفس كما تعني جهاد النفس ضد شرورها، وبين كلمة "جهاد" الإعلامية التي تعني الاعتداء الإرهابي ضد مواطنين "غير مسلمين" أو غربيين بالتحديد أو في أرض غربية. سوء الفهم، أو الجهل المتعمد، أحد مرتكزات الكتاب الذي يسعى لوضع النقاط فوق الحروف، كمحاولة جديرة بالنظر إليها لفهم الإسلام كدين وكثقافة. لكن فيرّين، وهو إسلامولوجي كذلك، لا يسلط الضوء هنا على "الدين الإسلامي" إلا في حدود الاستدلال بما فيه لإثبات نظرية، إنما يعمل على "الثقافة الإسلامية" التي كان لها الأثر الأكبر في التنوير الأوروبي. من هنا يرى أن كتاب "حي بن يقظان" لـ بن طفيل أحد أهم الكتب الأندلسية التي أدت إلى الحداثة الأوروبية أو التنوير الأوروبي. الإشارة لكتاب ابن طفيل يأتي في سياق الرد على مدعيّ أن فترة الأندلس أدت لتأخر إسبانيا عن اللحاق بركب التنوير الأوروبي، وهي أطروحة يتبناها العديد من المؤرخين الإسبان، لذلك يعتبرون فترة الأندلس مجرد "غزو واسترداد" ويلخصونها في حروب ومعارك انتهت بالطرد. ما يعتبره فيرّين تجاهل لجزء أصيل ورئيسي في التاريخ الإسباني، ويتبنى أن الأندلس منتج ثقافي عربي وإسباني معًا، وهي ثقافة أنتجها هذا المزيج الحضاري، وينفي أن تكون إسبانيا "مجتمعًا سعيدًا ومتحضرًا غزته قبائل صحراوية"، ويشير للتبادل الثقافي السابق على الدخول الإسلامي، كما يؤكد على الفصل ما بين الأندلس كتاريخ أصيل في التاريخ الإسباني وبين ما يعيشه العالم العربي اليوم من أزمات.


     في كل ذلك، يذهب إميليو جونثالث فيرّين إلى طرح أسئلة حقيقية حول التاريخ: "التاريخ ليس ما حدث، إنما ما نرويه"، بهذه الرؤية التفكيكية يعيد النظر في التاريخ الأندلسي، ويضرب مثلًا: لو أننا كتبنا اليوم عن روسيا الحرب الباردة، ماذا سنكتب؟ وإلى أي مدى ستتسق هذه الكتابة مع المدوّن عن هذه الفترة خلال حدوثها؟ وإذا كنا نتكلم عن روسيا كتاريخ حديث، فما بالنا بتاريخ الأندلس القرنوسطي. هكذا ينطلق فيرّين من رؤية تأريخية تسعى لقراءة تاريخية تهدف الهدم، رؤية تتبنى "ما بعد الحقيقة" لتبرهن على عنوان الكتاب ذاته "عندما كنا عربًا"، عندما كان الإسبان عربًا، وهي تذكِرة وتمجيد لفترة الأندلس، لكن ليس بوصفها منتجًا عربيًا خالصًا. الأطروحة تؤكد على أن العرب لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا الإسبان يعرفون أنهم كانوا عربًا.

     بهذه الرؤية التي يدور حولها الكتاب، بهذه الأطروحة، لا ينتصر فيرّين للثقافة الإسلامية فحسب، بل في الحقيقة ينتصر لتاريخ إسبانيا نفسه، الذي لا يمكن قراءته من دون ثمانية قرون هي مجمل الحضور الإسلامي بمساهماته العلمية والفكرية والمعمارية. وهو إذ يتناول ذلك لا يتناول القرآن كثورة أخلاقية، وقد كان كذلك بحسب المؤلف، إنما أثر القرآن في تكوين ثقافة كوّنت مجتمعات، والمجتمعات أفرزت حضارة، والحضارة أنتجت تاريخًا. هذا التاريخ لا يعتقد فيرّين أنه فعل تراكمي، إنما يقوم كل جيل بقراءة الأحداث من وجهة نظره، تحت تأثير السياق والأيديولوجيا.


    ولعل أحد أبرز نقاط الكتاب، بالإضافة للنقاط السابقة، هو أن الإسلام لم يكن إمبراطورية مثل الإمبراطورية الرومانية مثلًا، وأنه يرفض فكرة "الاسترداد" لأنه يرى أنه لم يحدث غزو من الأساس. يشير فيرّين إلى الأمة/الثقافة، وليس إلى الأمة/الدولة، الأرض كانت شبه الجزيرة الآيبيرية، ثم صارت الأندلس، قبل قيام دولة إسبانية كاثوليكية. ينتقد فيرّين "أننا نكذب على أنفسنا وعلى حاضرنا لو اقترحنا غير ذلك". وفي ذلك، رغم انتقاده للبحث الأكاديمي، إلا أن تركيز النقد موجه لوسائل الإعلام، إذ انتقل الخطاب من "أصولية الإسلام" لـ "أسلمة الأصولية"، لتخرج وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة، من حيادية تصنيف بعض المسلمين بالأصولية، للتأكيد على أن الأصولية ذاتها منتج إسلامي.

     ينصح فيرّين بقراءة كتاب خوان بيرنيت عن الأثر الإسلامي في النهضة الأوروبية، إذ يشير إلى أن فترة القرون الوسطى لم تكن معتمة كما يتصور البعض، المسألة أنها مكتوبة باللغة العربية التي لا يجيدونها، وأن فكرة "النهضة"= إعادة الميلاد، تشير إلى الحضارة اليونانية والرومانية متجاهلة الحقبة الإسلامية لهذا السبب.

     لا شك أن كتاب "عندما كنا عربًا" هو أحد الكتب الطليعية في هذا المجال، وإن كان له سابقون في الدفاع عن الحضارة الإسلامية بالأندلس، إلا أن رؤيته تظل جديدة وجدالية، جديد أيضًا حداثته، ربطه ما بين التوجهات الإعلامية وتحليل خطابها والتوجه الأكاديمي ورؤية رجل الشارع، نحن أمام كتاب "واقعي"، يلمس الأرض ويناقش أسئلة المجتمع، يقلّب صفحات التاريخ في الشارع، ويفهم طبيعة مجتمعه وطبيعة القارئ المتلقي لأفكاره. كتاب قادر على ربط الهجرة العربية إلى أوروبا بظاهرة الإرهاب واللجوء السياسي بتكوين صورة سلبية عن إسلام اليوم وعلاقته بالأندلس كتاريخ، وهي رؤية موسوعية ومتسعة نادرًا ما يتوافر عليها كتاب يتناول تاريخ الأندلس.   

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.