الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

الشاعر الكوبي فياض خميس: مخيلة عربية في قصيدة لاتينية



      

     فياض خميس شاعر ورسام ومترجم وصحفي كوبي من أصول لبنانية، ولد في 27 أكتوبر 1930 في "أوخوكالينتي" بالمكسيك، من أب لبناني كوبي ومن أم مكسيكية، وسريعًا ما انتقلت العائلة إلى كوبا، حيث قضى الطفولة والشباب.
     درس خميس في الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة سان أليخاندرو قبل أن يذيع صيته كفنان تجريدي، وفي سنوات قليلة أصبح عضوًا في مجموعة الرسامين الحداثيين الكوبيين التي عرفت باسم مجموعة الـ 11، والتي ضمت الكثير من الفنانين بهدف تبادل الأفكار والتخطيط لعالم أفضل. ومن هناك بدأ تكوين فكرة الثورة، غير أن هذه المبادرة تعطلت. في عام 50 رحل للدراسة في جامعة السوربون، وهناك تعرف على أندريه بريتو الذي كان أحد المؤسسين للشعرية الفرنسية لحظتها، وأتم معه معرضه الفني الأول. في تلك الفترة، كتب أيضًا أشهر قصائده، مثل "شريد الفجر"، وأهداها لـ نيكولاس جيين. وبعد 9 سنوات عاد إلى كوبا لينضم إلى واحد من أهم الأحداث التاريخية: الثورة الكوبية، والتي شجعته على البقاء في بلده بأمل أن تتحقق فكرته عن العالم والسياسة عبر سلطة يسارية تمثلت في فيدل كاسترو. وانهمك حينها في كثير من الأنشطة السياسية والثقافية مثل التعليم والرسم والكتابة، وشغل منصب ملحق ثقافي بالسفارة الكوبية بالمكسيك خلال أكثر من عقد.
     حصل ديوانه "هذه الحرية" على جائزة كاسا دي لاس أميركاس، لكنه منذ ديوانه الأول "الجفون والتراب" (1954) لفت النظر إليه واعتبره بعض النقاد "صوت الشعر الكوبي القادم"، صوت يمزج بين الواقعية والسوريالية، وبين الحلم والواقع. تلاه ديوان "المرجومة" الذي أكد تكوّن شعرية كوبية جديدة بخيال مختلف.
      الأهم أنه شغل الحياة الثقافية الكوبية طول حياته وبعد رحيله، إذ نال شهرة كبيرة على كل ما قام به من شعر ورسم، ومن المؤكد أن إنتاجه الأدبي لم يجمع بعد، إذ كان يكتب بأسماء مستعارة كثيرة، من بينها "فرناندو مورو" "أونيريو" وأحيانًا باسم مختصر: F.J.N، ولا أحد يدري إن كانت ثمة أسماء أخرى.
    عانى خميس من مرض خطير أدى لوفاته في 13 نوفمبر 88 في هافانا قبل أن يتم الثامنة والخمسين، وبعد أن ترك للعالم لوحات وقصائد جديرة بالبقاء، لذلك لن يغيب أبدًا اسم فياض خميس من كل الدراسات التي تناولت العرب في أميركا اللاتينية، وكل الأنطولوجيات الشعرية التي ضمت شعراء من أصول عربية، إذ مثلت الثقافة العربية جزءًا أصيلًا في مخيلته، وكما أصر أبوه على تسمية ابنه باسم عربي في القارة اللاتينية، أصر فياض أن يسمي ابنته بـ "روضة" كدلالة لاستمرار الأصل العربي. لكن الحقيقة أيضًا أن النقد الذي أولى اهتمامًا كبيرًا لقصيدة فياض وجد فيها الريادة في تكوين تيار طليعي شعري قادر على تجاوز الماضي، وسمات أسلوبية أبرزها البساطة والعمق، والانسيابية، بالإضافة للقدرة السردية في بناء مشهد شعري لا يتكيء فقط على المشهدية، بل على المجاز، ولا ينحاز للثورة فحسب، بل يثور من داخله على ذائقة الاتفاق، فتبدو قصيدته على غير نموذج، وإن اقتربت من نيرودا حينًا في صوتها الجماعي، ونيكانور بارا حينًا آخر في تمردها على الشعرية السائدة، لكنها تبقى دائمًا مصبوغة بصوته، بل وبتعدد هوياته.
   
هنا بعض قصائده:

قصيدة
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه حجر جوّفته الشمس
والمطر،
غير أنه طفل يموت بردًا في ميناء بـ بيرو،
غير أنه جواد ميت محاط ببقع تصف دوائر دخان أبدية،
غير أنه امرأة عجوز تبتسم كلما حدثوها عن وصفة جديدة لعمل فطائر بالمخ،
(بينما يحكون للعجوز عن عجائب التكنولوجيا والعالم الافتراضي والمراكب الفضائية)
غير أنه مسدس متأجج، قبضة مغلقة، ورقة سكروبيا، فتاة حزينة أو فرحة.
غير أنه نهر يقسم قلب الجبل؟
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه مصنع لعب أطفال،
غير أنه كتاب مفتوح مثل ساقيّ امرأة،
غير أنه يديّ عامل خشنتين،
غير أنه مفاجآت اللغة- هذا المحيط اللانهائي الذي اخترعه الإنسان كاملًا-،
غير أنه وداع العشاق في ليلة هجوم بقنابل عدوة،
غير أنه أشياء صغيرة بلا اسم ولا تاريخ
(طبق، كرسي، صواميل، منديل، قليل من الموسيقى في ريح الظهيرة؟)
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه كوب ماء في حنجرة العَطِش،
غير أنه جبل من الأطلال (أطلال عالم قديم نسفته الحرية)،
غير أنه فيلم لشارلي شابلن،
غير أنه شعب عثر على دليله،
ودليل عثر على شعب
في مفترق طرق معركة كبيرة،
غير أنه شجرة سيبا تسكب أزهارها في الهواء
بينما يجلس الفلاح يتناول غداءه،
غير أنه كلب يعوي على موته ذاته،
غير أنه صخب طائرات عند كسر حاجز الصوت
(أتخيل تحديدًا سماءنا وأبطالنا)،
ما الشعر بالنسبة لك غير أنه لمبة مضاءة،
غير أنه دجاجة تنقنق لأنها باضت في الحال،
غير أنه طفل يعد فلوسه ويدفع ثمن الجيلاتي،
غير أنه حب حقيقي، يقتسم الخبز كل يوم،
غير أنه الطريق المؤدية من الظلمة للنور (وليس العكس)
غير أنه الكوليرا التي نتعذب بها جميعًا
لأننا نكافح من أجل المساواة والخبز على الأرض،
غير أنه هذا الشيء الذي يتزحلق على رصيف مبلل وهم يشاهدونه،
غير أنه جسد فتاة عارية تحت المطر،
غير أنه حافلات مترعة بالبضائع،
غير أنه أدوات تذكرنا بالعنكبوت والسحلية،
غير أنه انتصار الضعفاء،
غير أنه النهارات والليالي،
غير أنه أحلام عالم الفلك،
غير أنه ما يدفعنا للأمام نحو البشرية الرحبة؟
ما الشعر بالنسبة لك؟
جاوب بحروف واضحة، والأفضل بحروف مطبوعة.
__________
فتحت بابًا حديديًا
فتحت بابًا حديديًا،
صريره تسلل إليّ، ثم وطأت جذر شجرة،
وأبصرت نافذة مشتعلة، لكن الفجر
كان يلتهم الأوراق ولم تكوني هناك لتقولي لي
إن العالم قد تمزق وغدا مسمومًا. دخلت،
صعدت درجات السلم في صمت، فتحت بابًا آخر،
تجردت من الجوال، وجلست، قلت إني أتصبب عرقًا،
ثم شرعت في ضرب ماكينة الكلام،
ماكينة الشخير والموت (وأنتِ كنتِ نائمة، وأنتِ نائمة، وأنتِ لا تعرفين
كم أحبك)، تجردت من ربطة العنف والقميص،
ارتديت روحًا جديدة كنتِ صنعتِها لي هذه الظهيرة،
وواصلت الكتابة واللعنات، واصلت حبك وعض
قبضتي. ثم فجأة بلغتني
أصوات أخرى:
كانت تغني لأشياء مستحيلة وجميلة، وكانت
تشعل
الصباح، وتذكر قبلات تعفنت
على النهر،
شفاه قوّضت الغياب. وأنا لا أرغب في قول شيء آخر:
لا أرغب في الكلام، حتى صرير الباب ربما خدش بعنف
هواء حلمك.
ما أهمية أن أخرج أو أدخل أو أكف عن الحركة.
أخلع حذائي
وألقي به كأعمي، وبحب، في وجه العالم.
------------
تأملها: إنها جميلة جدًا، ضحكتها ترتطم بالشاطيء

تأملها: إنها جميلة جدًا، ضحكتها ترتطم بالشاطيء،
ضحكة مترعة بالغضب وبالزبد. لكن لا تحاول
أن تقول ما يخطر ببالك. إنها في عالم آخر
(وأنت لست إلا غريبًا على عينيها، غريبًا على سنها).
قل لها، على أي حال، أنك مغرم بساردينها المقلي،
خاصًة في أمسية تمطر السماء فيها نبيذًا أبيض لا يُنسى. حدّثها عن
نار وطنك الجميلة.
هي جلية وغامقة
مثل المطر الذي
يغرق مدينتها. وعيناها تتسمّر
في نقطة متحركة
بين محطة الحب وزمن مفاجيء.
أظنك تنسى أحيانًا (للحظة، هذا مؤكد)
وظيفتك ككاتب عدل، وكبشري في النهاية
تتحدث عن السياسة بعبارات شعرية.
أفضل ما تفعله أن تقنع نفسك
بأن الشعر يكمّل نقصانك،
وأن تتحقق من أنك قد عبرت حدود الرعب
والقلق،
وأن تكتب أنك ذات مساء
تجولت بالمدينة الحجرية الجميلة
لتعثر ليس على الحب
بل على قليل من الحلم
الذي يذكرك بحلم كبير.

---------- 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.