الجمعة، 4 ديسمبر 2020

هل تتحقق نبوءة ميشيل ويلبك؟

أزمة الإسلام في أوروبا أم أزمة أوروبا مع المهاجرين


 

     في عام 2015، أصدر الكاتب الفرنسي الشهير ميشيل ويلبك رواية ديستوبية عن مستقبل فرنسا عنوانها "استسلام". يتخيل فيها ويلبك أنه في عام 2022 سيصل لسدة الحكم رجل عربي مسلم اسمه محمد بن عباس.

      تقوم الرواية بالأساس على تخيل القوة التي سيتمتع بها المسلمون في فرنسا حد أنهم، للمرة الأولى، سيصلون للحكم. ثمة دلالة أولى في العنوان، أن استسلام يعني إسلام، فالإسلام بالمعنى الإبتيمولوجي هو الاستسلام التام لمشيئة الله وقضائه وقدره، ما يعني أن الرواية عنوانها "إسلام". والحقيقة أن العنوان كاشف للمحتوى: يضع ويلبك إصبعه في الجرح الفرنسي المسكوت عنه، بحسب ما يرى، متبنيًا في ذلك صورة الرائي الذي يكشف أزمات مجتمعه، لكنه إذ يفعل يتبنى وجهة النظر اليمينية التي تثير الخوف من المسلمين أكثر منه يتناول قضايا المهاجرين. ويلبك يكتب روايته من منطلق الرجل الفرنسي الأبيض الذي وجد نفسه فجأة محاطًا بمهاجرين مسلمين فأثاروا رعبه، وتخيل شكل الحياة الفرنسية لو وصل أحدهم إلى السلطة. الرواية، بهذا البعد السياسي، أثارت انتباه رئيس الوزراء الفرنسي الذي تحدث عنها كأنها مسألة تخص الدولة، كما أنها تحولت لرواية بست سيلر بمجرد صدورها وتُرجمت إلى عدة لغات أوروبية، إذ تناولت سؤالين جوهريين: الغرب اليهودي/المسيحي في حالة تراجع، والبرابرة المسلمون يسيطرون على الحكم. في تطور الحبكة، نرى فرنسا على حافة حرب أهلية، ليأتي الفوز الانتخابي في النهاية لصالح محمد بن عباس، مرشح "الإخوة المسلمة" المتخيلة، ومن ثم تحول فرنسا لدولة إسلامية. مع ذلك، كما يقول جونثالو جارثيس في جريدة الباييس: "الرواية بعيدة عن تناول الحدث باعتباره كارثة، بالعكس، بالنسبة للبطل، وهو بروفيسور منعزل متخصص في أعمال الروائي ماري جورج هوسمانز، فأهم شيء هو العثور على عقيدة ما"، فلو لم تكن قادرًا أن تعتنق المسيحية، فلماذا لا تعتنق ديانة أخرى؟ في مقابل هذا البطل، ثمة بطل آخر هو فرانسوا، ويعتقد أنه ما من تناقض بين العلم والدين الإسلامي، ويعتقد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقبل العالم كما هو.

بين ويلبك وماكرون

     لا تنفصل رواية ويلبك عن خطاب الرئيس ماكرون، ولا ينفصل الاثنان عن عدد هائل من الدراسات والأبحاث والكتب التي تصدر سنويًا في أوروبا ويتناولها الأكاديميون في الجامعات لتناول أزمة المهاجرين المسلمين وبرامج إدماجه في المجتمع الأوروبي، وتقديم وجهتي نظر مختلفتين للعالم: المسلم العربي والمسيحي الأوروبي. عالمان من الصعب مبدئيًا لقاؤهما، لو نظر كل منهما للآخر على أساس ديني، ومن الممكن التقارب بينهما لو تبادلا النظر كمتوسطيين يجمعهما ثقافة البحر المتوسط، التي تناولها طه حسين باستفاضة ووضوح في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".

     على أرض الواقع، ثمة مشكلة في العقلية الأوروبية فيما يخص المهاجر المسلم، تتجلى أولًا في أن لفظة "مهاجر" التي تطلق عادة على المهاجر العربي/المسلم، فيما لا تستخدم مع المهاجر الصيني مثلًا. وفي مقال لها، ترى الفيلسوفة الإسبانية أديلا كورتينا، أنها تُستخدم بالتحديد لتوصيف المهاجرين المسلمين الفقراء، فلا تتسع لتشمل أثرياء الخليج الذين يقيمون في مدينة "ماربييا" الإسبانية. من هنا صكت كورتينا مصطلح "أبوروفوبيا" لتجسيد الأزمة، وهو مصلطح يعني "الخوف من الفقراء"، بالطبع أخف من "الإسلاموفوبيا"، إذ يبدو أن الخوف ليس من الإسلام، وإنما من الفقر، ما يدل عليه الترحيب بالعرب المسلمين الأثرياء. مقترح كورتينا واقعي، فالمهاجر الصيني لديه استثماراته الصغيرة والكبيرة في المدن الأوروبية، يصل إليها بطريق شرعي من خلال مطاراتها، يسدد ضرائبه ويحترم قوانين البلد، في مقابل المهاجر المسلم، سواء كان من شمال أفريقيا (مصريون، جزائريون، مغربيون) أو من أفريقيا السمراء (السغال ونيجيريا بالتحديد)، إذ يصلون في مراكب ويخاطرون بحيواتهم، وعلى استعداد تام للتضحية بأي شيء من أجل الوصول للفردوس الأوروبي. الكثير من هؤلاء، لأسباب تخص ظروفهم الحياتية والتعليم، لا يجيدون لغة البلد الهدف، ولا يتمتعون بأوراق تسمح لهم بممارسة مهنهم والتطور في المجتمع، فلا يجدون أمامهم إلا "العمل الأسود" والمقصود به الشغل من الباطن، أو التسول. في الحالة الأولى يتعرضون إلى الاضطهاد وأحيانًا النصب، ولا يتقاضون حقوقهم لأنه ما من منظمة تدافع عنهم لأنهم بالنسبة للدولة الأوروبية غير موجودين من الأساس. هنا تكتمل الصورة الأولى: المهاجر الفقير، المطارد، المخالف للقانون "غير الشرعي، الـ بلا أوراق"، وفوق كل ذلك هو مهاجر مسلم. يرى اليسار الأوروبي في مجمله أنه "ليس هناك إنسان غير شرعي"، ويرفض هذا اليسار العنف الذي تواجه به مراكب المهاجرين في البحر المتوسط من قوات حراس الحدود البحرية الأوروبية، ويطالبون على الدوام بقبول هذا المهاجر ومنحه كل الحقوق كإنسان. لكن اليسار في وجهته هذه يبدو مثاليًا، كمن ينادي في مالطا. فبرامج الاندماج الأوروبية مخصصة للمهاجرين "الشرعيين" وأبنائهم، والحق أنها مجرد تسويد أوراق أكثر منها برامج فاعلة.




أزمات الهوية

     ربما في عام 2016، وفي إحدى المدن الألمانية، قال الفاعل الأساسي في إحدى الحوادث الإرهابية فيما يفجّر مكانًا للتجمعات "أنا ألماني"، وكررها عدة مرات قبل أن يتفجر هو نفسه. بحسب التحقيقات، كان الولد ألمانيًا من أصول باكستانية. هو الجيل الثاني من المهاجرين، ولد في ألمانيا وتربى في مدارسها وجامعاتها، فما الذي دفعه لعمل إرهابي؟ لا يمكن قراءة العبارة بعيدًا عن أزمة الهوية، فـ "أنا ألماني" رسالة لكل زملاء المدرسة والجامعة، لكل الجيران والمجاروين في المواصلات العامة، مفادها أن شكلي باكستاني لكني ألماني. هذه الأزمة متكررة في معظم حالات الجيل الثاني من المهاجرين، هؤلاء الأبناء الذين لا يعرفون شيئًا عن وطن آبائهم، ولا يقبلهم أبناء الوطن الجديد، رغم أنهم يتحدثون اللغة ويتلقون نفس التعليم، لكنهم يظلون مسلمين بالنسبة للمواطن الأوروبي. وتظل الأولوية دائمًا للأوروبي من أصول أوروبية خاصة في فرص العمل، يتضح ذلك في دولة مثل فرنسا أكثر من دول أوروبية أخرى.

     وإذا كانت برامج الاندماج الأوروبية قد فشلت في استيعاب المسلمين، رغم أن الإسلام هو الدين الثاني في أوروبا ويمثله ملايين المواطنين، فالذنب لا يقع وحده على الحكومات الأوروبية، ثمة "جيتو" إسلامي يقاوم الاندماج، ويرى أن في الاندماج تضييع للهوية الإسلامية. هذا الجيتو تقوده جماعات إسلامية ممولة تسعى لفرض القيم الإسلامية على المجتمع الأوروبي، ليس ليقبلها المجتع الجديد، وإنما ليتبناها. بعض مسلمي أوروبا تنحصر حياتهم في البيت والجامع والعمل، ولا يشاركون بأي شكل في أي أنشطة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، ويعتبرون حتى الانتخابات الرئاسية مسألة تخص الفرنسيين أو الإسبان أو الألمان، بحسب بلدانهم، ويصبون جل اهتمامهم على المسجد وكيفية تحويل الأوروبي المسيحي إلى أوروبي مسلم صالح، حتى المنظمات الإسلامية المسجلة والتابعة للقانون باعتبارها ممثلة للمسلمين لا تسمع لها صوتًا إلا عند حدوث حادثة إرهابية فيصدرون البيانات للتبرؤ منها ونشر المقولة الإكليشيهية بأن الإسلام دين السلام. بهذا اقتصرت هذه المنظمات، ويرأسها مسلمون عرب، على خطاب بارد، بدون أن يبنوا جسورًا من التواصل الإنساني والثقافي والديني مع البلد الذي يعيشون فيه ويتنعمون في ديمقراطيته. لقد فشلت كذلك المراكز الثقافية العربية، التي تمثل حكومات دول عربية في أوروبا، في مد هذه الجسور وخلق تقارب بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية، واقتصروا في دورهم بعشاء بروتوكولي دون أن يتركوا أي أثر في المواطن الغربي، ولا نقلوا له صورة جيدة وحقيقية عن الإسلام والمسلمين، ولا نظموا مؤتمرات وندوات وورش عمل مخصصة للعرب عن قوانين البلد الأوروبي ودستوره وكيفية التعامل فيه وعاداته وتقاليده، كل ذلك من أجل خلق خطاب ثقافي يبني جسور المحبة والاحترام بين الثقافات بديلًا لخطاب الكراهية والنفور.

قمة جبل الجليد

     الأزمة الأخيرة بين فرنسا والعالم الإسلامي، المثارة على خلفية الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) وذبح مدرس التاريخ على يد صبي إرهابي منح لنفسه حق القتل، وما تبع ذلك من خطاب ماكرون، المُساء تفسيره من قبل جماعات ترمي مزيدًا من الحطب في النار، ليست إلا قمة جبل الجليد، وتنذر بمزيد من الأزمات والتعقيدات في السنوات المقبلة. نحن أمام مواطن مسلم عبّر عن غضبه بالذبح، مخالفًا القانون الذي منح له حق اللجوء للقضاء، ثانيًا اختار أسوأ طريقة للدفاع عن الإسلام، مقدمًا لليمين المتطرف دليلًا لا يدحض عن المسلم العنيف أو الإرهابي الذي يغضب فيقتل. نحن أمام أزمة ثنائية: مسلم لا يستوعب المجتمع الجديد الذي يعيش فيه وربما تعلم وولد فيه، ومجتمع مسؤول عن إقصائه وتهميشه. هذه الأزمة ستتكاثر ما لم تعمل الحكومات الأوروبية على حلها، بمزيد من احترام عقائد المهاجرين العرب والمسلمين، والتفعيل الحقيقي لبرامج الاندماج، واتاحة الفرص للجميع بالتساوي. وفي نفس الوقت، تعمل الحكومات العربية وممثلوها في الدول الأوروبية على توعية المهاجر بحقوقه وواجباته، ومنحه الحماية القانونية التي يحتاج إليها، ودفعه للتعايش مع أبناء الدولة التي جاءها مختارًا، والخروج من جيتوهات مسلمة يُساء فهمها من ناحية، ولا تؤدي إلا إلى مزيد من العزلة من ناحية أخرى. وقبل أي شيء، إدراك المهاجر نفسه أنه في وطن يحتكم للقانون، وأن هذا البلد هو من اختاره بنفسه وهاجر إليه، وعليه، كأبسط شروط المنطق، أن يفهم قوانينه ويطالب بحقوقه بالطرق السلمية.




     وأخيرًا، فخطاب ماكرون ينقصه الكثير من الذكاء، لكنه في الوقت نفسه لم يتحدث بسوء عن "المسلمين" وإنما أشار إلى "الإسلامويين"، والفارق واضح بينهما، إذ قلقه الحقيقي من التيار الإسلاموي الذي يخلط السياسة بالدين، والذي يدعو للعيش على أرض فرنسية لكن باحتقار للحياة الفرنسية والدستور الفرنسي. وهو نفسه قلق ميشيل ويلبك الذي عكسه في رواية "استسلام". "أزمة ماكرون" أنه، مثل الإسلامويين، نظر بعين واحدة إلى الواقع، وهي عين المواطن الفرنسي الأبيض، في حين كان يمكن أن يطرح، في نفس الخطاب، مقترحات بحل أزمة المهاجرين. وإذا سلّمنا بأن المسلمين في أوروبا في أزمة، فلا يمكن تجاهل أن أوروبا أيضًا في أزمة أمام ملف المهاجرين، وأن نبرة الاستعماري العنصري لا تزال مبطنة سواء في خطاب السلطة أو في خطاب المواطن الأوروبي، ولعل سببها أن فرنسا لم تعتذر عن سنوات استعمارها لشمال أفريقيا، ورغم رمزية الاعتذار إلا أنه سيقيم علاقة متساوية تزيل احتقان الاستعمار ويؤسس لتبادل مصالح بين جنوب المتوسط وشماله.

     ربما خطاب ماكرون أثار العالم الإسلامي أكثر مما أثارته الرسم الكاريكاتيري، ذلك أنه لم يقدم صورة صادقة ع معاناة العرب والمسلمين في دولة يعاني فيها المهاجرون حتى من حاملي الجنسية الفرنسية، ولعل شهادات المهاجرين أنفسهم، هؤلاء الذين لم يعرفوا وطنًا إلا فرنسا، تعكس مدى شعورهم بالظلم تارة بسبب نظرات بعض الفرنسيين لهم، وتارة لصعوبة حصولهم على أعمال تناسب مؤهلاتهم يكون الأولوية فيها للمواطن الفرنسي الأصلي. ولعل ذلك ما دفع الاتحاد الأوروبي، منذ ما يقرب من عام، ومع أزمة السفينة المحمّلة بمهاجرين أفارقة رفضت إيطاليا استقبالها وبادر رئيس إسبانيا اليساري بدرو سانتشيث بفتح بلده لهم، أن يدعو لاجتماعات تهدف مناقشة جدية لمسألة المهاجرين. وبعيدًا عن الرسوم وما أثارته، تبقى مسألة حقوق الأجانب في أوروبا جرحًا مفتوحًا وهوة كبيرة في شخصية أوروبا الديمقراطية والمتسامحة، بحسب ما تحب أن تقدم نفسها، وهذه الهوة لا يمكن سدها إلا بالاعتراف بحقوق المسلمين كمواطنين فرنسيين، لتكون هذه الخطوة الأولى في حل الأزمة.

------

منشور بجريدة أخبار الأدب

                 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.