الجمعة، 4 ديسمبر 2020

 

بعد رحيله بـ 34 عامًا: العثور على آخر قصة كتبها بورخس: سيلبانو أكوستا

 



مقدمة

     كان خورخي لويس بورخس يملي على ماريا كوداما نصوصه، ورغم أنه كان يسمع آراءها إلا أنه لم يكن يعدّل فيها، كأن النص مكتوب في ذهنه كاملًا ولا يريد أن يحدث فيه أدني تغيير. وفي 19 نوفمبر 1985، أملى على كوداما نصه الأخير، وبعد عدة شهور سيموت في 14 يونيو 1986. النص قصة حقيقية عن هارب من التجنيد أدانه الكولونيل فرانثيسكو بورخس، جد خورخي لويس، بالموت رميًا بالرصاص. وبعد 34 عامًا، تعلن جريدة "لا ناثيون" بتاريخ 4 نوفمبر 2020 العثور على القصة وتنشرها على صفحاتها.

العثور

     بمحض صدفة، كانت ماريا كوداما تقلّب في أرشيف بورخس وأوراقه القديمة، في أيام الحظر بسبب فيروس كورونا، فعثرت على هذه الورقة التي خطتها هي بيدها عام 1985 ثم طواها النسيان، إذ مات بورخس بعدها ولم يكتب بعدها أي نص آخر. ماذا كان بورخس يفكر وقتها؟ بورخس العجوز، القريب من الموت، بحياته الملأى بذكريات، يشعر فحسب أنه مدين لرجل قتلته رصاصات التعسف، وهي الرصاصات أطلقت بأمر من جده.

عائلة بورخس

     يقول ريكاردو بيجليا، الكاتب الأرجنتيني الشهير والمتخصص في أدب بورخس، إن خورخي لويس ابن عائلتين: واحدة عسكرية والأخرى مثقفة هاوية للقراءة وشغوفة بالمعرفة، ويرى أن بورخس، في شخصه وكتاباته، كان بوتقة ضمت العائلتين. والحقيقة أن بعض قصص بورخس، رغم أنها لا تبدو كذلك، إلا أنها سياسية، وذات مرجعيات كثيرة تاريخية، لكنه جرّدها من الحدث المعروفة وأبقى على جوهرها، منتصرًا في ذلك للفن في صورته المكثفة، مبعدًا إياها عن أي أحداث يومية تمثل ثقلًا على النص. وهذه القصة، المكتشفة منذ أيام، نموذج لهذه الفكرة، يختلط فيها التاريخي بالسيري بالخيالي، ليستخلص معنىً شعريًا حول نوع من الدين.   

خلفية تاريخية:

     تمرد الخوردانيين هو الصراع الأخير بين الوحدويين والفيدراليين في الجمهورية الأرجنتينية. وقع الصراع في محافظة إنتري ريوس وجزء من محافظة كورينتس بين 11 أبريل 1870، تاريخ اغتيال خوستو خوسيه أوركيثا و16 نوفمبر 1876، تاريخ إلقاء القبض على ريكاردو لوبث خوردان، قائد التمرد. قصة بورخس تنطلق من مقتل أوركيثا، وما يتبع ذلك من إلقاء القبض على الشباب لتجنيدهم إجباريًا، ثم الحدث الأساسي: الحكم بالإعدام على أحد الهاربين من التجنيد واسمه أكوستا.

------------

قصة: سيلبانو أكوستا

     ولد أبي في ناحية خونين، على بعد فرسخ أو اثنين من الصحراء، في عام 1874. وأنا ولدت في سان فرانثيسكو، بمقاطعة ريو نيجرو بالأوروجواي، عام 1899. ومنذ لحظة ميلادي وأنا مدين، بدين غامض جدًا، لرجل مجهول كان قد مات في صباح يوم من أحد شهور عام 1871. هذا الدَين تم كشفه منذ قليل، عبر ورقة وقّعها جدي، وبيعت في مزاد عام. واليوم أريد سداد ديني، ولا شيء سيكلفني تخيل بعض الملامح العابرة، غير أن ما لمسني هو أوهن طرف في خيط ربطني برجل بلا وجه، لا أعرف عنه إلا اسمه، المجهول حتى الآن، وخسارة الموت.

     في يوم اغتيال أوركيثا، حاصر المتمردون الخوردانيون منطقة بارانا. دخلوا ذات صباح إلى الميدان فوق خيولهم وداروا بها وهم يضربون على أفواههم ويصرخون بصرخات سخرية من القوات العسكرية. ولم يخطر لهم أن يسيطروا على المدينة.

     ومن أجل فرض السلطة على المكان، أرسلت الحكومة الكتيبة العسكرية رقم 2 مشاه.

     لم تتوافر الميادين الكافية، وعملت مجموعة على تجنيد المتراخين في الحانات وفي البيوت سيئة السمعة بـ الباخو. واصطادوا أكوستا في هذه الهوجة، وكانت شائعة حينها. ما من صعوبة لو نسبته إلى أبريشية بـ بوينوس آيرس أو مهنة محددة: صبي بناء أو سائس خيول، لكن هذا النسب سيخلق منه شخصية أدبية وليس الرجل الذي كانه. وبعد أسبوع هرب من المعسكر وانضم لمتمردي الجبل. ربما ظن أن التطوع في صفوف الجاوتشيين أقل صرامة من الانضمام في صفوف الجيش النظامي. ربما أراد تجنب الشعور بأنهم جروه إلى الحرب. انطلقت الحملة وألقت مجموعة من المشاه القبض على مساجين. أحدهم تعرّف على أكوستا. كان هاربًا وكان خائنًا. وجدي، الكولونيل فرنثيسكو بورخس، وقّع حكم الإعدام بقلم حاد من أقلام زمنه. ونفّذ حكم الإعدام أربعة رماة.

     وبعد ثلاثين عامًا ولدتُ. يربطني بهذا القتيل شعور خامل بالذنب. أعرف أني مدين له بتعويض لن يبلغه. لذلك أكتب هذه الورقة بلا جدوى في 19 نوفمبر 1985.

------

منشور بموقع "ضفة ثالثة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.